الرأي

متع السير الذاتية!

عبدالحليم البراك
لا يمكنك الحكم على كتب السيرة الذاتية بشكل مجمل، ربما مثلها مثل تفاصيل الحياة كلها؛ فالأحكام المجملة صفة منقوصة للأحكام، ففي السير الذاتية تفاصيل مذهلة أحيانا، وأحيانا أخرى لا تعدو سوى خربشات كتّاب تملأ الورق، وأذكر أني قرأت سيرة ذاتية لأحدهم لم تكن سوى استعراض لغوي لقدرة الكاتب على غرائب المفردات والاستعراض بها، ليغطي إما فقر الحدث أو صعوبة الوصف لديه، ومهما يكن من أمر، فإن للسائر في الصحراء القفر العارية – كما نظن- من التفاصيل المذهلة أن يكتشف فيها غنى لا يشبهه غنى آخر لمن يملك خزينة لا تنفد من العلم في الصحراء وسحرها وتفاصيلها ولغة تعينه على الوصف، وقدرة غير طبيعية على التخيل، فلا عذر لأحد على عدم غنى ما يكتب إلا انتفاء صفة الأدب والأديب عنه وكفى به عذرا.نعود للسيرة الذاتية فتقرأ في السيرة الذاتية الغنية أحداثا لا تمل، ويحول الكاتب يوميات بسيطة إلى أحداث غنية أخاذة، فهذا ميخائيل نعيمة وهو يروي سيرته الذاتية في (سبعون) يجعلك تلهث وراء الأحداث والكلمات وتنقطع أنفاسك وأنت تترقب ما حدث وما يحدث له في أيامه من أيامه الأولى إلى أيامه الأخيرة، ويروي لك في سيرته الذاتية أسراره الصغيرة وأخبار الأدباء الكبار، مشاريعه التافهة وأحلامه الكبيرة التي تحقق بعضها ومات الآخر قبل ولادته ولم يكن له نصيب من الواقع إلا الكلام، فتنتهي من مئات الصفحات وتتمنى أنه لم يمت حتى يروي لنا أكثر.أما أنيس منصور - على سبيل المثال - وهو يروي سيرة محصورة في أيامه مع صالون الأستاذ العقاد فهو يحكي لك قصة الأدب المصري في مئات الصفحات وكأنها لمح البصر وتنتهي وتتمنى أن لا ينتهي أنيس من هذه الرواية التي تأخذك في تفاصيلها في صدقها وكذبها (كذبها هي صدق الكاتب من خلال وجهة نظره) في مشاعرها وحقيقتها.أما كاتب رواية ظل الريح فهي رواية لكنها سيرة كاتب مغمور يرويها الروائي على هيئة أحداث لا تنتهي لكنه يمنحك الحكمة على هيئة عبارة عابرة لكنها ليست عابرة في ذهن الحصيف منا، فيقول عن حالات الصمت والكلام والإنصات كلاما يتهم صاحبه أن قائله هو الفيلسوف سينيكا لكنه يرفض هذا الافتراض ويقول إن قائله رجل مغمور امتهن صنع الكلمات الحكيمة وهو لا يمت للحكمة بصلة يقول فيها «الكلام مسلك الحمقى والصمت حجة الجبناء، أما الإصغاء فهو زينة العقلاء».أما أحمد أمين في سيرته الذاتية والجزء الأول منها فهو يبرر كتابته لسيرته الذاتية بعدة أمور منها: يقول «أنا العارض فكيف أكون المعروض وأنا الواصف فكيف أكون أنا الواصف والموصوف» ثم يمضي في تبرير لطيف نقبله منه ونحمد الله أنه استمر فيه فيقول بتصرف مني «إنما كانت الروايات والقصص سابقا تصنع للملوك والفرسان في الزمن الغابر أو لسياسي يحمل له الناس رغبة أن يكتشفوا سيرته الذاتية الداخلية، وجاء الأدب الحديث ليصف الغني والفقير والشجاع والجبان والمريض والصحيح، والفارس والجندي» ثم يردف «ولعلي أكون من هذا أو ذاك فلي العذر أن أكتب روايتي بنفسي».لا يتوقف السرد في السيرة الذاتية على هذه الأمثلة، ولو أحببنا أن نورد ما يستحق الإشارة من مقتطفات السيرة الذاتية لامتد بنا الأمر لكتاب وليس لمقال فحسب، ولو قدر أن كتب هذا الكتاب بعشرات الصفحات وزاد للمئات فلن يغني القارئ النهم عن أن يقرأ السير الذاتية من فم أصحابها (أقصد من قلم أصحابها) فهي من أفواههم أدق، وبعباراتهم ألذ وأجمل، يكفي أنها تاريخ أحيانا وأحيانا أخرى شهادة على أنفسهم والتاريخ حتى ولو كتب السيرة الذاتية إنسان مغمور لكنه يحمل قلم جميل رائع مثير، نقبل منه سيرته الذاتية العادية إن قدم لنا المتعة والجمال وجعل من أنفاسنا تسابق عيوننا على حروفه وكلماته من أجل معرفة البدايات والنهاية وغرائبية الأحداث والمواقف!Halemalbaarrak@