الرأي

سبب فشل الأنظمة الإسلامية والطوباوية

بشرى فيصل السباعي
من حيث المبدأ تهدف الأنظمة العقائدية لإقامة ما يسمى باليوتوبيا، أي «المدينة المثالية الفاضلة» وهي من أقدم مفاهيم الفلسفة اليونانية، وكما شرحها الفيلسوف اليوناني الأشهر أفلاطون، فهي تمتلك عيوب جميع العقائد والحركات والجماعات الإسلامية والدينية عموما مما يبين أن العيب لا يكمن في الإسلام ذاته إنما في نمط التفكير البشري النرجسي المحدود والقاصر والذي لا يرى الحكمة الأكبر والأعمق للأمور كما هي في الحياة، فمدينة أفلاطون الفاضلة هي بالواقع كابوس معكوس اليوتوبيا أي «ديستوبيا»؛ لأنها تتضمن أسوأ أنماط الشيوعية وسلطة الوصاية المستبدة لطبقة تعادل الطبقة الدينية مكونة من الفلاسفة وقائمة على الجبرية الطبقية كالهندوسية، ويتم فيها منع وإقصاء الفنون والشعر التي اعتبرها أفلاطون مفسدة.حاول المتعصبون من أهل العقائد المختلفة عبر التاريخ إقامة يوتوبيا عقائدية وكانت النتائج دائما كارثية، وعادت على أهلها بدمار شامل لأسباب داخلية وخارجية كالمجتمع اليهودي الذي عانى في القدم من ذات واقع المسلمين المعاصر بالهوس بإقامة دولة خلافة دينية حتى أن كلمة المتعصب الديني الإرهابي بالإنجليزية Zealots تأتي من مسمى أتباع تلك الحركات اليهودية التي كانت تقوم بعمليات إرهابية ضد الأمبراطورية الرومانية رغم أنها منحتهم حرية العبادة ومحاكم لشريعتهم وحكما ذاتيا لمجتمعاتهم؛ لكنهم رفعوا شعار «الحاكمية لله» وإقامة يوتوبيا دينية، وكانوا يقومون بعمليات إرهابية ضد مجتمعاتهم اليهودية وقتلوا كبار رجال الدين اليهود بتهمة الردة وكذلك كل من لا يؤيدهم ولا يتقيد بآرائهم المتعصبة وداعش اليهود حينها كانت جماعة اسمها «Sicarii- سكاري» استجلبوا على المجتمع اليهودي بسبب عملياتهم الإرهابية تدمير الرومان لمجتمعهم وهدم معبد الهيكل وتدمير القدس بالكامل بعد استيلاء الجماعة عليها وكانوا أول من مارس العمليات الانتحارية وذبح من لا ينضم إليهم بتهمة الردة واسمهم يعني «الذباحين».ربما بسبب هذا النهج المهوس بالسلطوية العقائدية لدى المتدينين اليهود حكم الله عليهم بالمنع من إقامة دولة لهم وبالنفي خارج الأرض المقدسة والخضوع لحكم سلطات البلدان الأخرى حتى يأتي المسيح ويقيم لهم دولة كما يعتقد اليهود، وهذا سبب معارضة جماعات اليهود الأرثوذوكس لإقامة إسرائيل كجماعة «ناطوي كارتا» والحكمة من هذا المنع؛ هو أن الهوس بإقامة سلطة عقائدية يتزعمها المتعصبون دينيا يمسخ حقيقة الدين؛ ولذا لحماية حقيقة الدين تمت معاقبتهم بالمنع من إقامة سلطة ودولة.حكومات اليوتوبيا العقائدية الشيوعية بالقرن العشرين في الصين أدت لمقتل أكثر من 40 مليون صيني، وفي روسيا أدت لمقتل أكثر من 12 مليون وفي كمبوديا قتلت أكثر من نصف الشعب، واليوتوبيا العرقية النازية استجلبت على ألمانيا الدمار الشامل ومقتل أكثر من خمسة ملايين ألماني، فسبب فشل حكم حركات وجماعات وأنظمة اليوتوبيا العقائدية الدينية واللادينية أنها تتوهم أن إقامة النظام المثالي الطوباوي يكون بتعطيل العمل الفطري لأنظمة وأجهزة الجسد اللاإرادية كنبض القلب والتنفس والتحكم بها إراديا لتكون موافقة لقناعاتهم العقائدية، وبالطبع سرعان ما يهلك الجسد، فاليوتوبيا تعتبر أن الأحوال الفطرية الواقعية خاطئة ويجب أن يفرضوا منظومة مخالفة للأنماط الفطرية السائدة في بقية العالم كمنع تعليم الإناث وحبسهن بدلا من النمط الفطري السائد عالميا بالمساواة بالتعليم للجنسين وذلك لخلق بيئة معقمة خالية من أي إمكانية للتعرض لعوامل الواقع أي الفتنة -الفتنة لغة: الامتحان ومنه قولهم فتن الذهب بالنار أي امتحن حقيقته- ولذا اليوتوبيا دائما تفشل ذاتيا وتنهار حتى بدون عدو خارجي.وقد ذكر القرآن هذه الفئة التي تعتبر نفسها أكبر المصلحين لأنها الأكثر جذرية في إرادة تغيير الواقع وهي في الحقيقة أكبر المفسدين؛ لأنهم يفسدون النظام الطبيعي الفطري لقولبته على قالب يوتوبيا عقائدهم المتطرفة (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).وعبرة أخرى من عالم البيولوجيا أن العلماء وجدوا أن الذين ينشؤون في بيئة يوتوبيا معقمة خالية من الجراثيم تصبح مناعتهم ضعيفة ويعانون تعصب الجهاز المناعي أي أمراض التحسس المفرط/الحساسية، بينما من عاشوا في بيئة طبيعية غير معقمة تكون مناعتهم قوية؛ لأنها معتادة على مقاومة العوامل المرضية ولا يعانون من الحساسية؛ لذا اليوتوبيا العقائدية أو بالأصح الديستوبيا تنتج أناسا يتسمون بالهشاشة الفكرية والنفسية والسلوكية مقارنة بمن ينشؤون في بيئة طبيعية حرة غير مقولبة.