الرأي

ترجمة وأدب

بسمة السيوفي
شهدت المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة تحولات جذرية في المشهدين الثقافي والأدبي، وذلك بفضل الجهود المستمرة للهيئة العامة للأدب والترجمة والنشر، حيث تأسست في فبراير 2020م بهدف تعزيز الثقافة الأدبية وتشجيع حركة الترجمة والنشر، لتصبح جسرا يربط بين الثقافات والحضارات ويعزز من مكانة المملكة إقليميا ودوليا.ومنذ انطلاقتها، تبنت الهيئة العامة استراتيجية طموحة تهدف إلى النهوض بقطاع الأدب والترجمة والنشر في المملكة عبر توفير بيئة محفزة للإبداع الأدبي، ودعم الكتاب والمترجمين والناشرين من خلال مجموعة برامج ومبادرات تعزز التفاعل الثقافي، وتبرز الهوية الثقافية السعودية في المحافل الدولية.تعنى هذه البرامج والمبادرات الاستراتيجية بتحفيز ودعم الأدباء والمؤلفين والناشرين والمترجمين، ويشمل ذلك تنظيم القطاع عبر اللوائح والمعايير، وبناء البيئة المحفزة، بالإضافة إلى تقديم البرامج المهنية لتطوير المواهب، وتفعيل دور الوسط الثقافي في تنفيذ مبادرات الهيئة وبرامجها التنفيذية.وقد كان لنا فرصة المشاركة في ورشة عمل تدريبية متخصصة عن «الترجمة في مجالات الفلسفة والأدب» هذا الأسبوع، مع مدرب أكاديمي متخصص وقدير من دولة المغرب الشقيقة، وبحضور نخبة مميزة من المشاركين والمشاركات المهتمين بهذا الحراك على المستوى الشخصي والمحلي، وعلى مدى 7 أيام، كانت التجربة رائعة.. أن تقابل وتناقش أناسا على نفس نسق التفكير والاهتمام والشغف بالثقافة، وكان الأجمل التعرف إلى شخصيات تشاركك نفس الفضاء في الفكر والحوار والاهتمام دون ملل، شخصيات تفخر بوجودها في الوطن وتتعلم منها الكثير. كان هناك يقين راسخ تلمسه الجميع خلال هذه الورشة.. بوجود الدعم الكبير للمهتمين وللكتاب والمبدعين السعوديين لاكتساب المهارات العملية في مجال الترجمة.ولا بد أن أعبر عن الامتنان الخالص للتنسيق والرعاية والاهتمام على مدار الستين ساعة تدريبية التي قام بها ممثلو الهيئة العامة للأدب والنشر والترجمة مع الذراع التنظيمي والإشرافي على تنفيذ مثل هذه المبادرة الطموحة؛ فورش العمل النوعية المتخصصة تدعم الخطى نحو الانشغال بالترجمة بشكل أكبر، وتزيد من فرص اكتشاف الذات الثقافية والآخر الواسع.لا ريب أن الترجمة في العالم العربي تعاني من شيخوخة مرعبة، ومن إشكاليات راهنة تتعلق بواقع الترجمة وآلياتها في المملكة العربية السعودية؛ فالمترجم أمام صعوبات مثل ترجمة المحكيات، أو اللغة العامية كلغة تواصل، وهو أمام استحالة ترجمة الشعر، لأنه يفسد الجماليات الشعرية، وأيضا هو أمام سوق ترجمة لا يرحم، تهيمن فيه دور النشر وتتدخل في اختيارات الأعمال وفقا لسياسة الأكثر مبيعا وسياسة العرض والطلب لدرجة تحصر الترجمة في أعمال لا أهمية لها، لأن سياسة الربح والمردود المادي هي المسيطرة.وبالرغم من النجاحات التي تحققت للهيئة في مجالاتها، إلا أن هناك تحديات عديدة تستلزم تضافر الجهود وتكثيف العمل.. منها مثلا تحدي تعزيز القراءة في المجتمع السعودي بشكل عام، وما يتطلبه من عمل على تكثيف الحملات التوعوية والبرامج التحفيزية لتعزيز ثقافة القراءة بين مختلف شرائح المجتمع، خاصة في ظل التغيرات التكنولوجية التي أثرت على عادات القراءة التقليدية.كما يبرز تحدي تحسين صناعة النشر المحلية، ويتطلب ذلك توفير الدعم المالي والتقني للناشرين، وتشجيع الابتكار في إنتاج وتوزيع وترجمة الكتب والأعمال الأدبية السعودية إلى لغات متعددة وكذلك ترجمة الكتب والسير والقصص من لغات أخرى إلى اللغة العربية.ويبرز أيضا تحدي المنافسة الدولية مع تزايد الاهتمام العالمي بالأدب والترجمة، مما يستوجب تعزيز جودة الأعمال الأدبية المترجمة لتنافس في الساحات الدولية، مع تبني أفضل الممارسات وتطبيق معايير عالية في عملية الترجمة والنشر.من وجهة نظر شخصية مستقبلية.. أجد أن ترجمة الأدب الروائي هو الخطوة الأولية، وسيحمل الأثر الأقوى ليعبر بشكل أو بآخر عن الهوية والثقافة السعودية.. وعن التكامل في البعد الثقافي والإبداع في النتاج الأدبي؛ لأنه يفتح مساحات أوسع للخيال يتقمصها المترجم.كما أجد أن التركيز في المرحلة المقبلة لا بد أن ينصب على ترجمة الرواية السعودية الكلاسيكية والمعاصرة.. خاصة وأن لدينا نتاجا ثريا في هذا المجال.هناك من يقول إن اللغة الأجنبية، التي يمتلك المترجم ناصيتها، هي مرآة يرفعها إلى عقله، وهي مرآة تضيء البقع المعتمة لدى الآخرين، ولا يمكن لقطاع الترجمة أن يضيء ويتطور إلا بتركيز الاهتمام على دور النشر لكي يهتم الناس أيضا بالاطلاع، خاصة وأن هناك تركيزا عالميا في السنوات الأخيرة على تعلم اللغة العربية والاطلاع على الأدب السعودي بشكل خاص، وقد تكون فكرة الاهتمام بالشراكات الفعلية واللقاءات التي قد تباع فيها حقوق التأليف والنشر والترجمة لكتب سعودية في معارض الكتب الدولية هي التوجه المقترح في المرحلة المقبلة حتى يتم تعزيز التواصل بين دور النشر والمترجمين السعوديين وحتى يبرز مبدعون جدد لا يخشون الاقتراب من «بعبع» الترجمة.. لأن لديهم خارطة طريق وسندا داعما.تتمثل رؤية هيئة الأدب والنشر والترجمة في: «ثروة أدبية متجددة.. وصناعة نشر متطورة.. ونشاط ترجمة احترافي»، وتفصح رسالتها عن «إيجاد البيئة الممكنة لريادة الأدب السعودي بما يثري الإبداع ويعزز جودة التجربة، ويطور نشاط الترجمة كما وكيفا وفق أعلى المعايير الاحترافية».ولأن الترجمة ممارسة فنية وأدبية في المقام الأول؛ لذا فالهم مشترك بين الهيئة والكتاب والمترجمين ودور النشر.. جميعهم عن بكرة أبيهم، والهدف هو دفع عجلة الثقافة والأدب في المملكة العربية السعودية للازدهار، ولن يتأتى ذلك إلا بإحداث تغيرات جذرية في المشهد الثقافي والأدبي السعودي.