أخبار للموقع

الحنين.. "أرق" الإبل

جاءت تسمية عام 2024م بـ 'عام الإبل' للاحتفاء بالقيمة الثقافية الفريدة التي تُمثلها الإبل في حياة أبناء الجزيرة العربية منذ فجر التاريخ وإلى اليوموهو ما حفز على الإمعان والتدبر في خصائص الإبل، والتفكّر في العاطفة التي تحيط بهذا الكائن الذي اتصف بمزايا فريدة، وخلال استقصاء عجائبه نلاحظ ما لاحظه إنسان الجزيرة العربية منذ عهدبعيد؛ حين شعر بنفحةِ حنانٍ تُخالج هذا الرفيق والأنيس في الليالي الدامسة؛ فكانت وقفة شاعريةتخلب الألباب وتثير أشجان النفس البشرية.

لوعة الفراق وتعاسة الارتحال والابتعاد عن الأهل والأحباب مشاعر ليست حصراً على الإنسان؛ إذ للإبل نصيبٌ منها، حتى أن الأمر يبلغ مبلغاً عميقاًفيها، فيتفتّت صبرها ويتزلزل شموخها، وكأنها كلما حنّت إلى أحبائها الغائبين تمتثل بقول أبي الطيبالمتنبي:

لَــــــكِ يــــــا مـــــنــــــازلُ في الــــقــــلـــــوبِمـــــنــــــازلُ أقْــــــــفَــــــرتِ أنــــــــتِ وهُــــــــنَّ مِــــــنــــــكِ أواهــــــــــلُ

وهو الذي استعان بصوتها 'الرزم' الذي تصدره إذا فارقت ولدها، ليوظفه في أزمته وهو واقفٌ على الأطلال، قائلاً:

إِثلِث فَإِنّا أَيُّها الطَلَلُ

نَبكي وَتُرزِمُ تَحتَنا الإِبلُ

وفي حين أن المتنبي رصد في القرن الرابع الهجري واقعية هذا الحنين الذي يعصر قلب الإبل ويريق عبرتها، والاضطراب الذي يُشجي نبرتها ويقلق أحاسيسها؛ كذلك في قرننا الخامس عشر انبرى الشاعر سعد بن جدلان إلى وضع 'الرزم' في إطار مختلف وكأنه يتحدث عن جِبِلَّةٍ وطبيعة لابد وأن تكون حينما قال:

من لاّ يحب رزامها تالي الليل

تومي به الدنيا على طول يدها

كما أن الحنين يخامر الإبل صوب مَبارِكِها الأولى التي ربَت فيها، ومن المحتمل أن تعود إليها ولذلك يُحكم الرعاةُ عِقالَها جيداً وهم يرتحلون حتى لا ترجع إلى موطنها الأول. وهي شديدة الشوق إلى الديار التي تَعبُرها، وقد تهيج عواطف راكبها كالشاعر الذي قال:

تحنُّ قَلُوصي نحوَ نجدٍ وقد أرى

بعينيَّ أنِّي لستُ مُورِدَها نجدا

وهكذا هي الإبل مرهفةٌ يُؤرّقها الشوق ويُضعفُها النوح، وإذ بها تصنع حالةً وجدانية تَرِقّ لها القلوب وتستدعي النظر فيها، متشابكة مع عواطف الإنسان وكوامنه، ومستفِزَّةً خوابِئَهُ وأسرارَه، لتكون خير خليلٍ يقطع معها الأسفار ويموج بها بين الرمال.