الرأي

رقمنة الإنسان اغتيال لنوازعه الإنسانية

زيد الفضيل
ناقش منتدى الأردن للإعلام والاتصال الرقمي، والذي عقدته وزارة الاتصال الحكومي الأسبوع الفائت، برعاية كريمة من دولة رئيس الوزراء الأردني الدكتور بشر الخصاونة، موضوع تأثير ودور الإعلام الرقمي في المنظور الثقافي والإعلامي، علاوة على دور الإعلام في الأزمات، ومركزية الإعلام التقليدي والرسمي في ظل تنامي حجم وتأثير الإعلام الجديد، إلى غير ذلك من الموضوعات الشائكة، والتي ناقشها المتحدثون بكل شفافية ومنهجية.ابتداءً، أحب أن أحيي القائمين على المنتدى برئاسة معالي المثقف الدكتور مهند مبيضين، الذين اهتموا بالمضمون وجودة المحتوى أكثر من الدعاية والإعلان، فكان تركيزهم على الكيف وليس الكم، وكان اهتمامهم بالنخب الإعلامية والثقافية الواعية أكثر من مشاهير التواصل المجتمعي، الذين اهتمت بهم بعض المنتديات من باب التسويق، ونسوا أن كثيرا من أولئك هم كالطبلة في وظيفتهم، فأصواتهم عالية لكنهم فارغون في داخلهم من كل قيمة ومضمون ومحتوى منهجي.على كل، أعود إلى موضوع المنتدى الرئيس، وهو الإعلام الرقمي، لأشير إلى أني أراه المؤثر الثالث في تطور البشرية.فإذا كان اكتشاف الحروف الأبجدية في القرن الخامس عشر قبل الميلاد يمثل المؤثر الأول في تطور البشرية، بحكم أنه أول اختراع بشري في خارطة المعرفة، لكون تلك الحروف المحدودة قد اختزلت المعرفة ومكنتها من الانتشار بكل سهولة ويسر، بحيث تمكن الإنسان من التعبير عن نفسه كتابيا بثمان وعشرين حرفا على أقصى حد، وهو اختراع عظيم جدا، ولولاه لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم وغدا.وإذا كانت الطباعة في القرن الخامس عشر بعد الميلاد تمثل المؤثر الثاني في تطور البشرية، لما أحدثته من قيمة تسويقية كبرى في عالم المعرفة، خلال الدور الذي أحدثته بنقلها للثقافة من حالتها النخبوية إلى حالتها الشعبية، ذلك أنه لم يكن باستطاعة كل معرفي أن يدفع قيمة نسخ المخطوطة التي يريدها لقلة ذات اليد، وهو حال أكثرهم، فكان أن جاءت الطباعة لتسرع من نسخ المخطوطات المعرفية أولا، وتقلل من حجم التكلفة ماديا، وهو ما أسهم في تسويق المعرفة ثقافيا بالشكل الذي وصلنا إليه اليوم.فإن الزمن الرقمي، هو المؤثر الثالث في تطور وانتقال الإنسان من مرحلة المحلية الأرضية إلى الفضائية الكونية، وأخشى أن تكون البداية الأولى لاغتيال الإنسان بيده، ودون أن يدرك.لقد مثل الزمن الرقمي عصر السرعة في نقل المعرفة، بحيث باتت المعلومة متاحة لكل أحد بضغطة زر. كما لا يشترط الزمن الرقمي أن يكون الإنسان منهجيا في معرفته للحصول عل المعلومة، فليس مهما أن تكون عارفا بالقراءة والكتابة، ولا قادرا على الكتابة بإملاء سليم، فالأمر لم يعد بحاجة إلى ذلك، لأن الزمن الرقمي سيصحح لك المراد إن أخطأت إملائيا، ويستجيب لك صوتا دون أن تكتب. هذا التسارع الزمني في الحصول على المعرفة قد نقل العالم نقلة نوعية، وصار مؤثرا في نمط حياته وسلوكه المعرفي والتعليمي، وهو أمر إيجابي بمثل ما هو سلبي أيضا.في السياق ذاته، أؤمن بأن سهولة الحصول على المعرفة لا تصنع حالة معرفية، إذ حتما ستقدم لك معلومة قبل أن يرتد إليك طرفك، لكنها أشبه بكبسولات مضغوطة مختزلة سرعان ما تختفي من صورتك الذهنية فور إغلاق صفحة محرك البحث. وهكذا، بمرور الوقت يعتاد الإنسان على فكرة عدم الانتماء، وهي فكرة خطيرة حذر منها الكاتب البريطاني كولن ولسون في روايته الوجودية «اللامنتمي» عام 1956م، وكان دقيقا في تشخيصه لنوازع شخصية اللامنتمي حين قوله: «بأنه الشخص الموجود في حفرة»، وهو حالنا اليوم في ظل تسيد الزمن الرقمي على وعينا وتفكيرنا ومشاعرنا.الانتماء للمعرفة يصنعه التفاعل الحسي، فحين تقرأ كتابا وتتفاعل معه بحواسك، فتلمسه بيدك وتشتم رائحته بأنفك ويتاح لك التعليق عليه كتابة، ثم تضعه بجوارك حتى إذا اختفى من أمامك، يمكنك أن تستدعيه ببصرك فتعرفه بلونه وحجمه، كل ذلك يجعل بينك وبينه حالة من الولاء والانتماء، فيعز عليك أن تعيره أو تهديه لأحد، وهل يعير المرء ابنه ويهدي وطنه لأحد غيره.على أننا قتلنا كل ذلك حين قررنا رقمنة المعرفة، ورقمنة الإنسان معها، وسعينا بضغط من الشركات التجارية إلى تحويل أنفسنا إلى ريبوتات آلية منزوعة المشاعر، ومتبلدة التفكير، وأصبحنا رقميين في نمط وعينا وسلوكنا الذهني، وهو ما يعني الإصرار على اغتيال الانسان بحجة مواكبة التقنية والربح الاقتصادي، فهل من مدرك لينقذنا؟ وكم أرجو أن يتبنى إعلان عمان الإعلامي هذه الصيحة، ويكون أول لبنة في أنسنة الرقمنة بدل رقمنة الإنسان.zash113@