الرأي

عن تغريبة القافر

بسمة السيوفي
كان التحدي أن أنهي 228 صفحة في يوم واحد؛ لأن هناك فرصة للقاء الكاتب بشحمه ولحمه، هنا في جدة خلال أمسية ثقافية لإحدى أندية الشراكة الأدبية مع وزارة الثقافة، فازت هذه الصفحات لرواية « تغريبة القافر» بجائزة البوكر لعام 2023م لكاتب اسمه زهران القاسمي من سلطنة عمان الساحرة والزاخرة بالتنوع والتراث والتاريخ، القادم من كهوف عمرها مليوني عام، والباسق من بساتين الأفلاج التي يعود تاريخها لـ600 سنة قبل الميلاد.كنت أنا الراكدة التي لم تقرأ رواية كاملة منذ زمن؛ ففواصل الكتب تترنح بين ثلاث أو أربع روايات في زوايا الغرف، القراءة لا تنهك إنما التوغل في شرايين الرواية للاستكشاف وأنت خائف من مجابهة حمضها النووي وكرياتها البيضاء، وكانت ماء عذبا مسكوبا على أرض ظمأ، منذ الفصل الأول تشدك الفكرة الفريدة لحكاية قرية «المسفاة» بشيابها وشبابها ونسائها، بجبالها ومزارعها وآبارها وحاراتها، بالممرات الضيقة والمنحدرات الشديدة، بالشجر الوارف وصلابة الحجر، فكأنك أمام تقرير غير شعري لحقيقة شعرية.تستثيرك فكرة أن تقرأ بهدف التمحيص عن سبب استحقاق الجائزة أم أن تظل تقرأ للاستمتاع ولا شي غير ذلك، وبدأت الصفحة الأولى، لم أكن أجرؤ على الترك بعد الفصل الأول، فقد كانت الصفحات تدافع عن نفسها دون مرافعة، تشدك بألق نحو التبختر في جنبات كل التفاصيل، بجوار المناجير والنخل والتل، تجرك للوعي بحقائق مطلقة، أن الحي يخرج من الميت.. ليغدو غريبا في أرضه، وأن المتسبب قد لا يلوم السبب، وأن الطبل يدق هادرا في رأس مريم بنت حمزة، فيهيم القارئ ويغيب عن الدنيا وهو فيها.10 شخصيات في الفصل الأول، تواجهها دون أن يضيع تدفق السرد، بداية من الطارش حمدان بن عاشور وانتهاء بعائشة بنت مبروك خالة مريم. وما بين العمات، والزوج المتروك، والطفل الوليد الذي لا يعرف قدره.. كنت أحمل قلم الرصاص وأوراقا جانبية، أرتشف القهوة لأقول بصوت مسموع «الله الله» كلما اصطدت عبارة بليغة أو وصفا بديعا. لينتهي فنجان قهوتي ببطء لذيذ.. وما بين الضجيج والسكون.. كنت أقف مدهوشة لا أريد أن أفيق.أنت أمام فكرة متفردة بشكل فاضح واضح، وأنت «عطشان إلى أن تلقى الماء»، وأنت أمام انبعاث جديد للأمكنة بعد جائحة فيضان، أنت أمام مشهد آسر لتطور شخوص الرواية وأبعاد الأحداث فيها، أنت هناك بمعنى الكلمة بين الأفلاج والسيل وبين الطمي والمحّل، بين كلمات عمانية بها رائحة صمغ ولبان، بين «بوه، وود الجنية، ومو مستوي».. تردد مع شخصيات الرواية لزمة الشين في «ربش وقلبش وزوجش وولدش»، تتقلب بين الهدم والجرف والغمر وبين الترميم والاستصلاح والخصب؛ فكأنه جناس وطباق وتورية، تتربص بحواسك الخمس من كل ناحية.القافر لمن لا يعرف هو الشخص القادر على تتبع الأثر واقتفاءه خاصة الماء، والقافر مولود من الفقد في هذه الرواية، يحسب الناس في القرية، أن أهل الأرض يكلموه.. «والناس في هذي البلاد ما يعجبهم شي.. من الخير يصيحوا ومن الشر يصيحوا»، أنت أمام تذكير بحقائق أن الموت لا تمنعه الطلاسم عندما يجيء، وأن المعتقد متجذر عند أهل القرى، فلا رضى ولا عتب لأن الأرواح مثقوبة، والأجساد يختلط في دمائها معتقد السحر والعين وأم الصبيان» وحب المؤامرات، أناس لا تقوى على المحافظة حتى على نعمة وجود المختلف بينهم. هكذا هي المدن أيضا في الرمزية، فقط هو الاختلاف الذي يفسد كل القضايا.. ولا عزاء للود.مرت 90 دقيقة ووصلت إلى الفصل الثامن، بلغ عدد أسماء الشخصيات التي رصدتها حتى الآن 21، أكتب الأسماء في بداية الكتاب وأحيطه بدوائر لتبدو الصفحة كخريطة ذهنية، أقرأ واتبسم لشعاع الكلمات الحانية التي تصف علاقة حب «آسيا مع إبراهيم»، وذاك الاستنبات الصعب لأخلص المشاعر بين القفر والجفاف في رواية بطلها الحاضر الغائب هو الماء، وتظل تتلحف بالصمت لكن قلبك يرقص مراغما، فالألم يدفن في رماد القلب مثل القافر.. في زمن التغريبة.. وزمن غربة الأرواح وهي في أوطانها.كانت الفصول الأربعة الصيف والخريف والشتاء والربيع تتبختر علنا في صفحة واحدة. لتلخص ويل الانتظار الطويل.. وكيف أن انتظار المحبوب للحبيب والتلهي بغزل الصوف يحق للأرواح المتعبة، وأن الذاكرة الوفية تحتفظ بكل شيء. فحبل الدوام يفلق الحجر.أنهيت الفصل الأخير بعد 300 دقيقة وأمامي 30 شخصية أو أكثر، أتشبث بهم ولا أضيعهم، عيناي حمراوين.. أردد «ماي ماي» والكأس إلى جواري، تذكرت أغنية قديمة للشاعر «البناي» كانت تقول «الدار قفرا والمزار بعيد، والشوق سيل دمعتي عالباب».. وما بين الدمع والشوق والماء تخيلت تمددي تحت شجرة سدر كبيرة إلى جوار شلال ماء في قرية «المسفاة».. ومنيت النفس أملا برحلة قريبة إلى سلطنة عمان.قوة الرواية تكمن في متعة ما تضمنته من أفكار جديدة.. من استئناس الفرادة وتسامحها مع النكران، من الطاقة المتسربة تحت جلد كل تفصيلة في السرد وكل قصد بعد معنى؛ لدرجة استحقاق الفوز بجائزة البوكر، في أن ما كتب يدافع حقيقة عن وجوده دون الحاجة إلى مجادلات، في أن البعد قرب، وأن الموت حياة، وأن للجنون شؤونا، وأن حكايات النبذ والتفضيل والاختلاف هي رحيل وغربة أبدية، وهي موجودة في كل مكان وزمان.. لكنها تفوقت وسمت في رواية تغريبة القافر.smileofswords@