الرأي

عواقب العودة للتراث والتاريخ

بشرى فيصل السباعي
في بدايات ثورة الاتصالات ووسائل الإعلام الفضائية التي سميت بالعولمة ضج الأوصياء على الرأي العام بالتحذير من مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، لكن من يطالع آثار العولمة على أرض الواقع يجد أن نتيجتها كانت معاكسة لتلك المخاوف والتحذيرات، فهي أدت للعودة للتراث أكثر من أي وقت مضى بسبب الشعور بتهديد الهوية بالعولمة، بالإضافة للعمل على نشر التراث عبر الإنتاجات الفنية، لأن الجمهور العالمي تجذبه وتثير فضوله الخصوصيات الثقافية، ولذا حتى الصين التي كانت من ضمن سياساتها الرسمية منع ظهور المعتقدات الدينية والأسطورية في أعمالها التمثيلية اضطرت للتخلي عن هذه السياسة لكي تجذب إنتاجاتها الجمهور العالمي، وهذا أدى لتعزيز الهوية الثقافية للشعوب وإعادة إحياء التراث الثقافي محليا ونشره عالميا.لكن للأسف استغل بعض الانتهازيين تلك العودة إلى الهوية الثقافية في تسييس خطاب الانتماء الثقافي بالتعصب الغوغائي/الديماغوجي والشوفيني/المتكبر العنجهي العدواني، ونتج عن ذلك أنه منذ عقدين صعدت التيارات اليمينية المتعصبة في كل أنحاء العالم ووصلت إلى السلطة وصار أنصارها أكبر تهديد للأمن الوطني في جميع الدول في الشرق والغرب أكثر من الإرهابيين الإسلاميين، ووصل خطرهم إلى اقتحام جموع منهم الكونجرس الأمريكي في أعقاب الانتخابات الرئاسية الماضية.والنتيجة الثانية السلبية لاستغلال تيار العودة إلى التراث كانت التخلف عن السباق إلى المستقبل لصالح العيش في أطلال أمجاد الماضي المزعومة، ولذا على سبيل المثال كانت التوقعات في تسعينات القرن الماضي أن الهند ستسبق الصين في سباق التنمية والتطور والتكنولوجيا والصناعة بسبب كثافة تخصص خريجيها في علوم الحاسب الآلي، لكن بسبب استبداد حركة العودة إلى الماضي بالهند تحولت السياسات الحكومية من تشجيع النهضة العلمية والصناعية إلى حركة إعادة إحياء التراث الهندوسي، لذا إنجازات الحكومة الحالية تنحصر في إعادة بناء المعابد التاريخية وغالبا يتم هذا على أطلال هدم المساجد، مثل معبد رام الذي بني على أطلال مسجد بابري الذي هدمه المتطرفون الهندوس وسط أعمال عنف وإرهاب جماعية مروعة ضد المسلمين، وأيضا إعادة إحياء مفاهيم عنصرية متخلفة تراثية مثل النظام الطبقي الهندوسي الذي يؤدي لاضطهاد أكثر من 250 مليون إنسان ينتمون إلى الطبقة المنبوذة، وإقامة المزيد من التماثيل العملاقة للآلهة الهندوسية بحيث أصبحت أضخم التماثيل عالميا هي تلك المقامة في الهند بدل بناء المستشفيات والجامعات والبنية التحتية، فتخلفت الهند عن سباق التنمية والتطور وتقدمت الصين حتى صارت الصين قطب الصناعة والتكنولوجيا الأكبر في العالم متقدمة على أمريكا وجميع الدول الصناعية لأنها ركزت على صنع أمجاد الحاضر والمستقبل بدل العيش في أطلال أمجاد الماضي والتراث.هذه عبرة هامة للمسلمين الذين يعتقدون بصحة شعار أن المسلمين سيصبحون أقوياء، وقوة عظمى أن تبنوا العيش في أطلال الماضي والتاريخ، وهذا الشعار أنتج الجماعات الإرهابية التي تسعى لهدم الواقع المعاصر لإجبار الناس على العيش في أطلال الماضي والتراث التاريخي، حتى خرائطهم تحمل مسميات البلدان بالعصور الوسطى وليس مسمياتها المعاصرة، فالخطاب الإسلامي والثقافي العام والوعي الجمعي لا يتضمن تصورا لبناء الحاضر والمستقبل، فهو ما زال محصورا بالعيش في أطلال الماضي والتاريخ؛ فلا توجد حتى روايات عن الخيال المستقبلي ولا مسلسلات وأفلام عربية عن المستقبل، بينما الخيال المستقبلي من أكثر المواضيع تناولا في الإنتاجات الأدبية والفنية في الغرب والدول الصناعية، وتنحصر مواضيع الإنتاجات العربية في عيوب وقبائح الواقع والماضي ولذا هي غير جذابة. يجب فك الارتباط بين الدين والتدين وبين العيش في الماضي والتاريخ، فالماضي والتاريخ وتراثه وعاداته وتقاليده ليست الدين، فالدين والتدين نوعية وعي مكرسة على المثاليات العليا ولا تتطلب العيش بالماضي والتاريخ والقطيعة مع بقية العالم ومحاربة الواقع المعاصر.