الرأي

ذاكرة في الذاكرة: ابن عثيمين والأسد

زيد الفضيل
استمتعت بقراءة كتاب «غرايبة والأسد: أسفار من المودة والوفاء» لمعالي المؤرخ والكاتب الثقافي الدكتور مهند مبيضين، والذي قدم فيه عرضا لبعض حواراته في زمن مضى مع علمين أردنيين من أعلام الثقافة العربية وهما الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد، والأستاذ الدكتور عبد الكريم غرايبة، واللذان كان لهما دور في تأسيس جانب من مدماك الحركة المعرفية خلال القرن العشرين، ليس على الصعيد الأردني وحسب، بل وعلى الصعيد العربي ومنها المملكة العربية السعودية.في مقدمة كتابه الثري بالذاكرة، أشار الدكتور مبيضين إلى كيفية معرفته بالأديب الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد (1922 – 2015م) الذي تحاشى الإجابة عن سؤاله في محاضرة عامة حول علاقته الثقافية بالأديب طه حسين، وبخاصة من بعد إعلانه لرأيه في الشعر الجاهلي، والذي أثار حفيظة كثرة كاثرة من المثقفين العرب، حيث تخفف في إجابته، وطلب من المبيضين أن يزوره لاحقا، وتم ذلك بعد سنة من السؤال، وهو ما أدهش الأسد، لكنه لم يستنكف أن يدلي بإجابته باستفاضة العالم، ثم عرف أن الطالب المبيضين يدرس الماجستير ودون أن يكون لديه أي عمل يقتات منه كفافه، فما كان منه إلا أن بادر بتوظيفه في مشروع الفهرسة الشامل، بل وحدد له أياما للعمل بحيث لا تتعارض مع أيام محاضراته بالجامعة.الشاهد في هذه الجزئية من سردية الحكاية كامن في قدرة الأساتذة المعرفيين على استكشاف ملكات طلابهم، وحرصهم على استمرارهم في أعمال البحث والتنقيب المعرفي بمساعدتهم على تدبر شؤون حياتهم، والأهم هو قدرتهم على احتواء طاقة الشباب المثقف المتطلع لبلوغ أجوبة كاملة بهدوء وحكمة. ولم يكن ليتأتى ذلك لولا عمق المعرفة الأصيلة التي تسنمها الأسد وأمثاله، الذين قرؤوا محبة، وأدركوا وعيا، وآمنوا بأن التواضع سمة المعرفة، وأن الاستمرار بالبحث سبيلها الأوحد، فمن قال وصل فقد هلك.في هذا السياق أذكر حكايات عديدة جرت لي شخصيا مع عديد من الأساتذة المعرفيين الذين كان لهم دور في بناء وعيي الثقافي في مرحلة التكوين والطلب العلمي، وتمكنوا بوعيهم وإدراكهم من احتوائي معرفيا، بعدل وإنصاف العالم المعرفي، وأحد أولئك كان الأستاذ الدكتور عبدالله بن صالح بن عثيمين يرحمه الله (1936 – 2016م) أستاذ التاريخ الحديث في جامعة الملك سعود وأمين عام جائزة الملك فيصل العالمية.حيث أتيت إليه من بعد قضاء تجربة مريرة مع مشرفي العلمي على رسالة الماجستير في التاريخ القديم الأستاذ الدكتور هشام الصفدي، الذي تحول في سلوكه العلمي معي قبل إنهائي لرسالتي العلمية رغبة في أن أتأخر في إكمالها، لكن تغيير سلوكه المفاجئ وبشكل فظ قد أثر في نفسي، وانعكس الأمر علي صحيا بعد ذلك بإصابتي بنزيف حاد في شبكية العين، وكان أن تفرغت للعلاج، ثم قررت تغيير التخصص الدقيق، والانتقال للتاريخ الحديث، ورحب مجلس القسم بذلك إدراكا منهم لملكاتي المعرفية، وأوكلوا مهمة معادلة مواد السنة المنهجية لأستاذ معرفي قدير وهو الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الهلابي يحفظه الله، الذي قرر معادلتها فورا، إيمانا بقدرة طالبه وتمكنه معرفيا، فكان أن اتخذ قراره بعيدا عن أي إجراء بيروقراطي يمكن أن يؤثر على مسيرتي في حينه، ثم كان أن قرر مجلس القسم تكليف الدكتور العثيمين ليشرف علي في إعداد خطة الماجستير الجديدة، ومن ثم أوكله بالإشراف عليها، وكانت الرسالة دراسة وتحقيقا لمخطوط يحكي قصة دخول العثمانيين لليمن من وجهة نظر دولة الأئمة في اليمن، وتم كتابتها بأسلوب لغوي فيه بعض الألفاظ التي لا تتسق مع الرأي السلفي للوهلة الأولى، وحدث أن ثار جدل بيني وبينه حول بعض تلك الألفاظ التي رأيت لها دلالة وتخريجا علميا، ولعلي كنت حادا في إصراري لاسيما وأني حديث عهد بمأساتي في رحلتي العلمية في التاريخ القديم، وآثرت الانسحاب كليا من الدراسة، لكن أستاذي العثيمين وبعلمه الواسع ووعيه العلمي وعدله البحثي كان كبيرا في احتوائه، فما كان منه إلا أن حرص على استقبالي بابتسامة حانية، وكان بإمكانه ألا يفعل، واستعدت مشواري العلمي من جديد، لأناقش الرسالة في نهاية السنة الدراسية.شاهدي من سردي الموجز يكمن في قيمة المعرفة الحقيقية التي اكتنزها الجيل السابق، والتي انعكست على سلوكهم، فكانوا علماء حقيقيين ربانين في تعاملهم مع طلابهم، فلله درهم أحياء وأمواتا، وليت عديد من المعاصرين والقادمين يدركون بأن المعرفة الحقة ترتكز على حقيقة التواضع، ومن تواضع لله رفعه.تلك ذاكرة في ذاكرة، وفي المكنون شيء كثير، وأشخاص كثر يعجز المرء عن أن يفيهم حقهم، ومن أولئك الأستاذ الدكتور أحمد الزيلعي، والدكتور عبدالرحمن الشملان وآخرون، فطوبى لهم حاضرين وغائبين، ولهم الفضل ابتداء وانتهاء.