الرأي

الأوهام في مدن الإنس والجان!!

وليد الزامل
خرجت ذات يوم وزميل لي لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في الصحراء وأثناء سيرنا ضللنا المكان وفقدنا طريق العودة.قررت أنا وصاحبي الجلوس في السيارة إذ لا فائدة من السير بعشوائية أو التخبط دون خطة واضحة المعالم.لعلنا نقضي الليلة في العراء وفي الصباح الباكر نستجمع قوانا ونحاول أن نهتدي إلى المكان سبيلا. صاحبي لم يستطع النوم من شدة الجوع وحاول البحث عما يسدر الرمق، ويملأ البطون، كي ينام قرير العيون؛ أما أنا فاستسلمت تماما للنوم. ماهي إلا لحظات حتى لمحت قبسا من نار تبعه طرقات خفيفة على باب السيارة؛ إنه أحدهم جاء ليعرض علينا المساعدة قائلا: ألكم حاجة فأقضيها؟شيخ طاعن في السن ولكنه قوي البنية ولا تظهر عليه آثار التعب، لا أعرف من أين جاء فالمنطقة خالية تماما من السكان؟أخبرنا الرجل الغريب أن هذه المنطقة تقع قريبة من وادٍ وأن الاتجاه شمالا مع بزوغ الفجر وبشكل مواز للوادي يوصلنا حتما إلى طريق عام في وقت يتزامن مع ارتفاع الشمس قيد رمح.هذا ما كنا نريد، بدأت بتشغيل محرك السيارة فالفجر على وشك البزوغ؛ إلا أن الغريب أصر علينا بالجلوس فواجب الضيف إكرامه، وعلينا قبول دعوته وتناول الطعام قبل المغادرة.نزلنا في الوادي القريب حيث يقيم الرجل الغريب لنشاهد بيوتا صنعت من أخشاب الزان تكسوها حجارة من المرمر بألوان زاهية تسر الناظرين.كنا نسير في طرقات ملتوية على جانبيها أعمدة وظلال ونخيل تتدلى منها إضاءة كأنها الياقوت والمرجان.جلسنا في مجلسه؛ وماهي إلا لحظات ويحضر هذا الغريب الشهم ومعه طبق فاخر ملئ باللحم والشحم والسمن البري والأرز يكفي لعشرة أشخاص.قال الغريب لصاحبي هل تريد أن أسكب السمن فوق اللحم أم أتركه؟ فقال صديقي: بل اسكبه.لم أصدق ما رأته عيناي فهممت بتناول قطعة اللحم المشوية التي يتقاطر منها السمن وأرى وجه صاحبي مسرورا فقلت «بسم الله الرحمن الرحيم» كعادتي عند البدء في تناول الطعام.ما أن قلتها حتى اهتز المكان، واقشعرت الأبدان، حينها وجدنا أنفسنا في خرابة تفوح منها روائح نتنة وأرى الغريب وقد تحول إلى ثعبان يزحف ببطء مغادرا المكان.أما المدينة التي كنا نراها حجارة من المرمر والمرجان فما هي إلا مكب للنفايات وتجمع لمياه الصرف الصحي. عدوت أنا وصاحبي نحو السيارة وأدرت المحرك لأتجه سريعا خارج مدينة الجان. كنا نجري ونلهث وأثناء هذه الجلبة سمعت صاحبي هو من خلفي يردد قائلا: لماذا قتلت المتعة؟ لماذا قتلت المتعة؟لم أع ما قاله صاحبي حتى عدنا إلى مدينتنا لأفهم منه أنه يلومني على ذكر اسم الله الرحمن، فلولا ذلك لاستمتع بالمكان! مهلا يا صاحبي إنها أوهام وليست حقائق ظاهرة للعيان فما تعتقد أنه لحم مشوي ما هو إلا جيفة نتنة وعظام، وما تراه بيتا مصنوعا من المرمر ما هو إلا مسكن للعقارب والهوام، فهل تريد العيش في الأوهام تحت سقف البؤس والظلام؟! إني أرى هذه المدينة كحال (بعض) مدن الإنس لا تستجيب لاحتياجات الإنسان، بعيدة عن الصمود، تظهر لساكنيها بثوب متجدد أصيل لا يلبث أن يختفي ويتلاشى وقت الكوارث والأحزان.إنها مدن ليست مستدامة.. هي باختصار مدن الأوهام!