الرأي

ما من صداقته بد

محمد سعد السريحي
إنه ضيف ثقيل، مر على صاحبنا منذ زمن ليس بالبعيد، رأى بوادر قدومه قبل أن يصل إليه، أرسلها له ليشعره بقرب وصوله، ولكن نفس صاحبنا كانت تتجاهلها، إما للهروب من الواقع، وإما لإنكاره، المشكلة أنه يعلم علم اليقين أنه لم يزره كضيف، بل جاءه ليبقى معه، ما بقي، ويلازمه في حله وترحاله، ويقظته ونومه، إنه (مرض السكر)، ذو الاسم الحلو، والفعل الشين.الصدمة الأولى بدأت عندما أخبره الطبيب الإصابة به، فاستحضر أقارب له، وأصدقاء، ومرت في ذهنه صور لمعاناتهم معه، صور فيها نحول الجسم، وفيها حمية، ونظام غذائي صارم، ومداومة على تناول أدوية، ومعاناة مع زيادة التبول، وضعف الصبر على حبسه، وتنميل الأطراف، وضعف الشعور فيها، ومعاناة في الإحساس بالتعب والإرهاق، والإحساس بالجوع... واستحضر صورا أكثر قتامة؛ كاعتلال شبكية العين، وبتر الأطراف، ولا تقف الصور عند الإصابة بالجلطات، وتتعدى الفشل الكلوي.كل هذه الصور ترد ومعها أفكارها الخاصة، وحالات أصحابها، ومعاناتهم، نسأل الله أن يرحم من مات منهم، وأن يلطف بالأحياء، ويسلمهم.مرت هذه الصور بأحداثها وقصصها المختلفة، في دقائق معدودة، والطبيب يشرح له عن المرض، وعلاجه، والتعامل معه، ولسان حال صاحبنا يقول: عندي مما سمعت ورأيت ما يكفي لتكوين دراية كافية عنه.ومع الصدمة الأولى تذكر أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنه قدر مكتوب، فقدر الله وما شاء فعل، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وحمد الله على قضائه، وسأله - تعالى - أن يعينه على مرافقه الجديد، الملازم له.الصدمة الثانية أتت عندما علم المقربون منه بالخبر، فرأى علامات الحزن في أعينهم، وقرأ شعور الهم من صفحات وجوههم، وأبدوا له إحساس العطف في نبرات أصواتهم، وفي سلوكهم.الصدمة الثالثة تشكلت من التفكر في الحالة الصحية، ومراقبتها، فبدأ يربط كل عارض جد عليه بالمرض الحلو، التعب، والإرهاق، والعصبية، وتقلب المزاج، وغيرها... وبفضل الله تجاوز صاحبنا هذه الصدمات، فقد طالت على بعض الناس، وزادتهم توترا، ومرضا.ثم بدأت المهمة الأصعب المستمرة إلى يومنا، في تغير نظام الحياة، وإعداد برنامج جديد، فيه ممنوعات، ومحظورات، وبدائل عما تشتهيه النفس، فالقهوة والشاي، تشربان مرة دون سكر، ولابد من حمية تقسم الأطعمة إلى ثلاثة أقسام: قسم مسموح به مطلقا؛ وهو غالبا مما لا تشتهيه النفس إن لم تعافه، وقسم محدد بكمية بسيطة، وقسم محظور، وهذان القسمان فيه ما لذ وطاب، وما تهفو إليه النفس وتشتهيه.وبرنامج الحياة الجديد يلزم صاحبنا بالفحص وإجراء تحاليل عدة، ومراجعة الطبيب بصورة دورية، مما قد يكون صداقة مع الطبيب، وقد يجري له تعديلا على البرنامج.ومما صار ثابتا في البرنامج تناول عدة أدوية، بمواعيد وجرعات محددة، يلتزم بها في الحل والترحال، والفطر والصيام، فمنذ اليوم الأول وحقيبة الأدوية لا تفارقه، والحمد لله.ومن البرنامج الجديد: أن المشي والرياضة عموما صارت ضرورة، ولم تعد للتسلية، التي يقوم بها وقت الفراغ، أو متى ما سمح المزاج.ومن الإشكاليات الكبيرة: الضغط النفسي في متابعة مستوى السكر التراكمي، فإذا انضبط، ووصل لمستوى طبيعي أو قاربه تبدأ النفس بالإبحار في منطقة الممنوعات، والتراخي في الأخذ بالملزمات، ليتفاجأ في التحليل التالي بالارتفاع، ومعه طبعا يسمع موشحا من تحذيرات الطبيب، يطربه بها، ويشنف بها سمعه، ثم يجري تعديلا في البرنامج، ويشدد فيه.إن الإنسان ليس بآلة من الآلات الحديثة، نبرمجها كما نشاء، ويسير وفقا لهذه البرمجة، وليس جسدا بلا إحساس وشعور، فنفسه تشتهي، وتعاف، ويشعر بالرضا، والفرح، والسرور، وقد يعتريه الهم، والحزن، والغضب.قال له صديقه قديم العهد بالمرض، محاولا التخفيف عليه: (ستتعود عليه حتى تحبه)، والحقيقة أنك لن تحبه، ولكن ستحاول أن تتعايش معه، فما من صداقته بد.