الرأي

ابن معمر وحقيقة المعرفة

زيد الفضيل
تعرفت على الأديب الواعي والمثقف المعرفي الأستاذ عبدالرحمن بن معمر منذ ثلاثة عقود تقريبا، كان خلالها واحدا في قوله، متفردا في خلقه، ثابتا في سلوكه، وقبل ذلك وبعده كان واسعا في معرفته دون تباه، مدركا لحقيقة المعرفة ومتواضع أمامها، إذ لا أحد فوقها، ولعمري فتلك صفة العلماء الحقيقيين الذين استوعبوا محدودية علمهم، وآمنوا بأن المعرفة بحر عميق ليس لأحد بلوغ قراره، وأن الإقرار بالجهل هو البداية لكل معرفة، فمن قال لا أعلم فقد أفتى، وكلما ازداد المرء معرفة أيقن بجهله وفق قول الإمام الرازي.ذلك كان حال أديبنا ابن معمر الذي عاش حياته بهدوء وغادرها بهدوء؛ وهو حال عديد من المثقفين المعرفيين الحقيقيين الذين أرادوا أن يكونوا هم، وليس غيرهم، فلم تبهرهم سطوة المعرفة ليتوهوا بعد ذلك في زيفها، وآمنوا بأن الكلمة أمانة، والكتاب مسؤولية، ولذلك كانوا دقيقين في قولهم، ضنينين في نشرهم، إذ ما فائدة أن ينشروا نتاجهم المعرفي في زمن بات الوهم والادعاء المعرفي هو السمة السائدة.وفي المقابل فقد ابتلانا الزمان بكثير ممن تحركهم غريزة الشهرة، ويستهويهم الادعاء الواهم بالمعرفة، فتراهم وقد أكثروا من لغطهم، وتعمدوا نشر كتب بأسمائهم ودون أن يكون لهم أي جهد في كتابتها، إذ البركة في مكاتب التأليف في عديد من أرجاء عالمنا العربي، التي وبمقابل مالي تنسج لك ما تريد، وتكتب باسمك ما ترغب أن ينسب لك، ففي جعبتهم كل شيء ابتداء من كتابة القصة والرواية مرورا بأي كتاب في العلوم الإنسانية، ووصولا إلى تأليف رسائل علمية لدرجتي الماجستير والدكتوراه.وهكذا برز في الساحة أشخاص ليس لهم أي عمق زمني في الكتابة، ثم تراهم وقد أنتجوا القصص والروايات الهزيلة في مضمونها ومحتواها، على أن ذلك ليس مهما بالنسبة لهم بقدر ما يهمهم أن يشار إليهم بوصفهم كتابا مؤلفين.كما ظهر في الساحة آخرون ليس لهم أي انتماء معرفي في عديد من التخصصات الإنسانية العميقة، ولم يعرفوا باهتمامهم بتلك العلوم بشكل أو بآخر، كما لم يقدموا أي ورقة علمية حول عديد من الموضوعات الإنسانية المتخصصة، ولم يشاركوا في أي من الندوات العلمية كذلك، ثم فجأة تشهد الساحة لهم بكتب مهمة في عناوينها ومحتواها، وهو أمر يثير الريبة، ويفرض على المتابع كثيرا من الأسئلة، مع عدم نفي أن يكون لبعضهم جهدا فيما نشروه باسمهم.هذه الظاهرة، وأقصد بها ظاهرة الادعاء المعرفي، لم يهتم بها أديبنا أبو بندر يرحمه الله، كما لم تكن حاضرة في ذهن جيله المعرفي، لكونه ورفاقه قد تأسسوا بشكل متين، وتعمقوا في محيط المعرفة الواسع، فأدركوا بألا حدود معلومة لما هم فيه، وأن ما خفي عليهم أكثر مما وقفوا عليه، وكأني بهم يرددون في خواطرهم من بعد تلذذهم بعمق ما انشغلت به أذهانهم ونفوسهم قائلين: يا ليت قومنا يقرؤون ما قرأنا، ويتدبرون ما تبحرنا في أفانينه، فيغوصوا في كتب المتقدمين ومن تلاهم، حتى إذا أسسوا بمتانة لقاعدتهم المعرفية، تركوا العنان لإبداعهم ليصوغ ما اكتنز في وعيهم، وتشكل في صدورهم، وفي حينه لن يخرج إلا ما يجب أن يخرج إضافة أو تحليلا أو نقدا وتقويما.أشير إلى أن من المعيب أن يشير أحد في وقتنا الراهن إلى نفسه بوصفه مثقفا مؤلفا، وهو لم يقرأ أو على الأقل يطلع بتمعن لما كتبه جيل الرواد في بداية القرن العشرين في وطننا العربي وصولا إلى كل من سبقهم من العلماء والأدباء المعرفيين، والذي أسسوا لحركة النهضة المعرفية التي يتباهى بها أكثرنا، ولا أبرئ نفسي من ذلك، قولا وإدراكا.ليتنا ندرك بإيمان أن من كان حريصا على إدراك الأسس التي قامت عليها عمارته المعرفية والبالغ عدد أدوارها 15 دورا، ستجده مهتما بأن يصعد العمارة دورا دورا، ليعرف أوجه الإيجاب ومواقع الإخفاق، حتى إذا بلغ دوره الذي هو يعيش فيه ساهم فيه بوعي وإدراك، مع الإشارة إلى أنه ليس لزاما عليه التوقف كثيرا في كل دور، إلا لمن أراد الإبحار والتخصص في أفانين ما توقف عنده؛ أما أولئك الواهمون فتراهم قد استقلوا المصعد السريع ودون أن يشغلهم الاهتمام بإنتاج وسيرة من سبقهم، فالأمر لا يهمهم كثيرا. وهكذا تتكرس المعرفة الهزيلة، ويترسخ الوهم زبدا يذهب جفاء مع هبة أول موج.أخيرا، أؤمن بأن بلوغ نهضة صحيحة يستلزم الوقوف على أساس متين، وأؤمن بأن أي مهندس حاذق سيعمد إلى هدم كل الطوابق الخاطئة هندسيا ليصل إلى أساس متين ثم يكمل مشروع بنائه، وهو ما نحتاجه اليوم معرفيا، فهل إلى ذلك سبيل؟zash113@