يقال عن أفلاطون - وهو الفيلسوف المعروف، والتلميذ النجيب لسقراط، والأستاذ المبجل لأرسطو - إنه أول من قال (الحب أعمى)، وهذه العبارة مهما اختلفت تفسيراتنا لها تظل صحيحة وقريبة من الواقع إلى حد ما.فالحب في حقيقته لا يتوقف عند مشاعر المحبوب وردة أفعاله، وإنما على مشاعر المحب وسعة خياله، ولذلك قال أبو الطيب المتنبي:وما انسدت الدنيا علي لضيقهاولكن طرفا لا أراك به أعمىويؤكد ذلك البردوني حينما يقول:والمرء إن أشقاه واقع شؤمهبالغبن أسعده الخيال المنعِمُوتحتمل عبارة أفلاطون تفسيرات عدة، منها أن يكون المحب قد أعياه الواقع والخيال معا، فما عاد يبصر شيئا إلا محبوبه، وبات يسير إليه في طريق من الجنون وفقدان العقل، وتحتمل أن يكون المحب صار مطواعا لمحبوبه، ولا يرفض له شيئا يطلبه مهما كان، وتحتمل أن المحب ما عاد يقبل أن يسمع في محبوبه عذلا أو لوما أو أي شيء آخر، حتى ولو كان ما يقوله الوشاة والعذال صحيحا، وأيا كانت هي احتمالات الفلاسفة والشعراء، فلا يزال لدى غيرهم من البسطاء والعوام تعريفات مثيرة وشيقة لمعنى الحب الأعمى، وربما ظهرت معهم معالم جديدة لحد العمى ومستوى الإبصار.في القرن الثاني قبل الميلاد، وقبل أن ينتصر الرومان على القرطاجيين، ويهرب هنبعل، كما يقول مؤرخو تلكم الحقبة الزمنية، كان هناك فتى يقال له كوكاليس، ورغم غرابة الاسم وحداثته عن أسماء تلكم الفترة، إلا أن كوكاليس كان اجتماعيا ووجها مألوفا، وكان فيلسوفا نبيلا يرتدي النظارة ويدمن الغليون، وكان يعشق الريال والبايرن، ويعجبه أداء نادال وجوكوفيتش، رغم بساطة هندامه وقلة حيلته!.ذات مرة التقى كوكاليس بفتاة فقيرة جميلة من طبقة العبيد، يقال لها مورفين، فكانت له كالسحر، وكان إذا شعر بضيق أو كدر ذهب إليها، فإذا رآها سكنت آلامه وزال كدره، وتقول الأساطير إن مسكنات المورفين المعروفة اليوم ترجع نسبتها لتلك الفتاة القرطاجية العجيبة، سألته يوما عن الحب، فقال لها: الحب شعور متمرد لا يمكن كبحه أو السيطرة عليه، هو موجات كهرومغناطيسية تخترق دواخلنا دون أن نعيها أو نشعر بها، فقالت له: أخطأت تعريف الهوى أيها الفيلسوف النبيل، الحب ما هو إلا مصلحة مربوطة بالزمكان، فإما أن تكون لك أو هي عليك!.لم يتفطن كوكاليس لمغزى كلام مورفين، وظل سابحا في خيالاته حالما بما هو فيه، ولما أغارت عليهم خيول الإسكندر، كانت مورفين قد اختارت الذهاب مع (مطوع) مقدوني إلى زيلامسي تقضي شهرا من العسل هناك، فكتب كوكاليس تغريدة قبل أن يستحوذ إيلون ماسك على تويتر ويلغي حسابه: احذروا المورفينيات، فإنهن لب الإدمان وأساس مرض الاكتئاب، وإلى يومنا هذا والأطباء يحذرون من استخدام المورفين، ولكنهم في معظم الحالات يصفونه علاجا لمرضاهم ومسكنا لآلامهم وآهاتهم.في الجانب العربي، كان لدختنوس صاحبة الوجه الجميل والرأي السديد والمنطق العذب قصصا وحكايات، فقد قيل إنها تزوجت من ابن عمها، وكان رجلا كريما شهما وشجاعا قويا، ولكنه كان يكبرها سنا، فقد كان عجوزا هرما وكريه الرائحة والمنظر، فخلعته (أونلاين) في غمضة عين، ثم تزوجت بابن عمها الآخر، وعلى نقيض زوجها الأول كان جبانا خوافا وكسولا وكثير النوم، ويقال إنه قتل وهو نائم في إحدى الغزوات، فحزنت عليه ورثته بقصيدة، ثم تزوجت من بعده بشاب وسيم قد شغفها حبا ودلالا، إلا أنه كان فقيرا مدقعا في فقره، ولما احتاجت دختنوس في الصيف لبعض الطعام أرسلت لزوجها الأسبق رسالة (نصية) تطلبه لبنا، فرد عليها ساخرا بقوله: (الصيف ضيّعت اللبن)، فلما بلغها قوله هذا قالت وهي تشير إلى زوجها الوسيم: (هذا ومذقة لبن خير)، العجيب في خوارزميات هذه الدختنوس أنها تؤكد من جهة على أن الحب مصلحة، تماما كما كانت تقول السيدة مورفين، وأعمى من جهة أخرى كما كان يقول الفيلسوف أفلاطون.أبو الفضل العباس ابن الأحنف شاعر الغزل الأول، قال عنه البحتري هو (أغزل) الناس، كانت له حبيبة من صنع خياله، لا يصرح باسمها، وإنما يطلق عليها اسما مستعارا في أشعاره، تخيلوا لو أن أبا الفضل هذا عاش معنا في أيامنا هذه، وكان له حساب على منصة إكس أو فيسبوك، ترى كم اسما مستعارا كان سيستخدمه هذا (المغزول) لنفسه أو سيطلقه على معجباته!، وهو القائل:كم من كواعب ما أبصرن خط يديإلا تشهّين أن يأكلن قرطاسي!ربما لو رأى ما نحن فيه اليوم من غث وغثيث لذهب بصره كله في شاشة الآيفون أو الجلاكسي!، ولأن الحب لا يقتصر على حب الرجل للمرأة أو العكس، كان حب المال والشهرة والمنصب محققا بشكل تكاملي لمقولة أفلاطون المعتبرة ونصيحة مورفين الفنتازية، وربما تعداهما إلى (ومن الحب ما قتل)، والنماذج التي أعماها الحب المفرط كثيرة وكثيرة جدا لسنا بصدد استعراضها، ولكن ليس من المعقول تعميم مثل هذه القصص على إخفاقات الحب الأعمى، فهناك نماذج عدة أعماها الحب بشكل إيجابي، فحققت نجاحات في جوانب معينة وأخفقت في جوانب أخرى، والمؤكد أن الحب لا يولد أعمى وإنما يصاب به لاحقا، وفي كل الأحوال سيظل الهوى مصيدة العشاق ومربط أخيلتهم، وسيظل الكثير يدندن مع رائعة ناجي ويتغنى بصوت أم كلثوم قائلا: هل رأى الحب (ضحايا) مثلنا!drbmaz@