حنان المرأة.. للإبل نصيب
الأربعاء / 18 / شعبان / 1445 هـ - 14:08 - الأربعاء 28 فبراير 2024 14:08
في الصحراء حيث يرقد الرمل بسكونه الخافت ويتسامر النسيم بأسرار الليل، تتألق المرأة العربية بِدَورٍ يروي قصة الحياة بألوان الإيمان والتضحية، حينما تجد نفسها بجانب الإبل لتنسج معها حكاية الوفاء والعطاء وتُعبّر عن قوتها، حيث تتسلق المرأة قمم التحدي وتشدو بأنغام الأمل، لتتغنى بعلاقتها مع الإبل في أفق الصحراء بقصيدة الحياة.
تلاحم
لعل أبرز ما يميز تلك العلاقة هو التلاحم الشديد بينهما، حيث تقوم المرأة بالتضحية بكل ما تملكه من أجلها، فهي تتحمل مشقة العناية بها وتصبر على طباعها الحادة التي تظهر في بعض الأحيان، لتقابل الإبل هذا الحب بالوفاء.
هذا التلاحم تجسَّد في العديد من القصص حيث ذُكر في أحداها عن شومهالعنزي رحمها الله التي عاشت تسعين عاماً في أطياف الصحراء مع الإبل،وباتت أيقونةً مشرقة في عالم الرعاية والعناية، لتلهم المنطقة بقوة إرادتها وحنانها تجاه إبلها بعد فقدانها لزوجها في حادثٍ مأساوي منذ ثلاثين عاماً، ولتصبح بعدها الأم والمربية الحازمة، الصارخة بعنفوان الصحراء، بعد أن اختارت رعاية أطفالها من خلال حبها العميق للإبل، فلم تكن شومه مجرد راعيةٍللإبل، بل كانت شاعرة تُربِّي بالحنان والصبر، لترسم بقصائدها الشعبية لحن الحياة ومفهوم المحبة قائلة:
يا ذلولي روّحي بي روّحي بي
واقطعي عني بعيدات المسافة
ما يجيك العوق وانتي من نصيبي
يافداك الهاف ومن يمدح بهافه
وكما جرت أحداث الحياة استمرت شومه في مسيرتها مع الإبل حتى آخر نفس، تاركةً خلفها إرثاً يشهد بروح الإصرار والجمال الذي لا ينتهي.
صبر
تتجلى دروس الصمود والتكيّف بوجه كافة تحديات البيئة القاسية، وذلك في رحاب الحديث عن علاقة المرأة بالإبل، فعندما تمتلك المرأة القدرة على رعاية الإبل وتحدّي الظروف، يتشكّل من جرّاء ذلك مدرسةٌ حقيقية للصبر، عبر شراكةٍ وطيدة ورحلة عتيدة أمام عواصف الحياة.
وهذا ما أنشدت به مها الرويلي حيث أشارت إلى أن الإبل لم تكن مجرد رفيق في رحلة حياتها، بل كانت مدرسة للصبر تجسّدت معانيها في أبياتها:
هواي انا يا هي حرش العراقيب
ورثن ورثته من أبويه وجدي
البِل غلاها بين عوج المحاديب
وان جيتها كل المشاعر تهدّي
حب
حب المرأة للإبل ينبع من جذورٍ عميقة وعلاقة تاريخية تنسجم مع هواء الصحراء، نمَت منذ نعومة أظفارها لتحلّق في فضاء هذا العالم، وتتعلم فنون وأسرار رعي الإبل، وكيفية الاهتمام بها، حتى تتحول إلى قائدة ماهرة لقطيعٍمن الجمال يمضي بثقة في الصحراء، ومع اعتيادها على هذا النمط في الحياة يصبح خروجها من هذا السياق أمراً صعباً، فحتى مع فرض الزمن والتطور نفسَيهما بكل قوة على تلك المرأة، إلا أنها ما تزال تحن بذكرياتها لجمال تلك اللحظات التي عاشتها بين الكثبان القاحلة برفقة إبلها، كما قالت الشاعرة بخوت المرية بحنين وحسرة وهي تعتبر الصحراء جزءاً من حياتها:
وجودي على بيت الشعر عقب بيت الطين
وجــودي عـلـى شــوف المغاتـيـر منـتـثـره
لغة
يتسلل الحزن والوحدة إلى قلب المرأة بعد رحيل الإبل عنها، حيث تشعر بالاشتياق العميق لرؤيتها، وتنعكس تلك المشاعر على إبلها، لتظهر في سلوكياتها، وهو ما يؤكد على أن الإبل مخلوقاتٌ ذكية وحساسة، تفهم لغة الفراق والتعبير عن الحنين، لنجدها ترفض الطعام والشراب بعد رحيل راعيتها، أما في الجانب الآخر يتجلى هذا الاشتياق عند المرأة في الأشعار والقصائد، ومنها ما ذكرته الشاعرة جزعاء بنت راجح بن فدغوش:
لا شفت زعجولٍ من البِل تشاليت
قلبي مع حرش العراقيب يشتـاق
تشابه
في عالم الصحراء، تُشبَّه الإبل باختلاف أنواعها ومسمياتها بالمرأة، حيث يتقاربون في بعض الجوانب، خصوصاً ما يتعلق بالمشاعر، كون الإبل من الكائنات التي تتمتع بالنعومة والرقة، تُشبِه بذلك إلى حدٍّ كبير طباع المرأة، فعلى سبيل المثال 'الناقة الخلوج' التي فقدت حوارها، تعيش تجربةً مؤلمة وقاسية، تجعل من تلك المرحلة من أصعب التحديات التي تواجه رعاة الإبل، حيث يتضح ذلك في حنين الخلوج الذي يكون شديد العمق، فلا تنسى تلك الناقة فراق وليدها بسرعة، وهو ما يتشابه مع مشاعر المرأة في فقدها لضناها.
رسمت الشاعرة سعيدة الثعلية تلك التشابهات في قصيدتها، حيث قاربت ذلك الحنين، وأبرزت روعة التواصل العاطفي بين المرأة والإبل في لحظات تعبيرٍملهِمة:
يا لجّتي لجّةْ خلوج المصاغير
اللـي علـى بـوٍّ تزايـد حنـاهـا
أواصر
تمتد أواصر التشبيه بين المرأة والإبل إلى مفهوم المسميات حيث يتجاوز تشبيهمشاعر المرأة بالإبل ليصل إلى الأسماء مثل 'وضحى' و'هنوف' و'العيوف' التي تنبعث منها روائع الجمال لتُشكّل أفقاً مميزاً يعشقه الرجل وتختال بهالنساء، وفي هذا السياق يشدو الشاعر سلطان الحويقل أبياتاً تَظهَر بهاتشبيهاتٌ لمسميات الإبل تحمل في طياتها أنوثة وجمالاً لا يُضاهى، يستأنس بها الرجل وتتغنى بها النساء لأناقة وجاذبية تلك الإبل الساحرة:
يا شبه وضحاً من الزين ورسوم الجمال
سميت عند أهل الوضح باسم مجمله