الرأي

قطوفها دانية

زيد الفضيل
أبدع الأمير الشاعر خالد الفيصل في قصيدته الخالدة «مجموعة إنسان»، حين شخص واقعه بحكمة ووعي، ذلك الذي فيه «من كل ضد وضد»، فترى فيه النهار بإشراقه، والليل بسحره وهدوئه، جامعا بين حناياه فرحا مشوبا بحزن، وضحكا مختلطا بدموع، يعيش في كل لحظة ابتداء حياة يسقي فيها القلوب برحيقه الزاهر، ويهدي الحيارى دروب خلاصهم، وفي الوقت ذاته يحتار في كيفية خلاصه، فيكون كالشمعة التي تضيء لغيرها وتحترق في ذاتها الأبدية.حقا ما أجمل تلك المعاني التي شدا بها بإبداع الفنان محمد عبده فكانت إحدى سيمفونيات العصر معنى ولحنا وغناء!وواقع الحال لكل أحد منا تجربته في الحياة، ولكل واحد قصصه وحكاياته، تلك التي تجمع في مضمونها خليطا من الأحاسيس والمشاعر، من السلوك والطباع، التي تتجانس حينا، وتتغاير أحيانا، فكل واحد منا يمكن أن يكون «مجموعة إنسان» منذ الابتداء وحتى يكتب الله أمرا كان مفعولا.على أن خيرهم ذلك الذي وطن نفسه ليكون سهلا ميسرا، خلوقا متسامحا، ودودا قريبا من ذاته، وبسيطا للآخرين، ليس فيه كبر أو تعال، إذ ليس في الدنيا شيء يستحق التعالي والكبر، التشدد وتعقيد الأمور، فالناس كأسنان المشط، وهم شركاء في الكلأ والماء والنار كما جاء في الأثر النبوي، وما أروع إيليا أبو ماضي حين عكس ذلك في قصيدته الغراء التي وسمها بالطين والتي جاء فيها:نسي الطين ساعة أنه طينحقير فصال تيها وعربدوكسا الخز جسمه فتباهىوحوى المال كيسه فتمرديا أخي لا تمل بوجهك عنيما أنا فحمة ولا أنت فرقدأنت لم تصنع الحرير الذيتلبس واللؤلؤ الذي تتقلدأنت في البردة الموشاة مثليفي كسائي الرديم تشقى وتسعدولقلبي كما لقلبك أحلامحسان فإنه غير جلمدأيها المزدهي إذا مسك السقمألا تشتكي ألا تتنهد؟وإذا راعك الحبيب بهجرودعتك الذكرى ألا تتوجد؟أنت مثلي يبش وجهك للنعمىوفي حالة المصيبة يكمدقمر واحد يطل عليناوعلى الكوخ والبناء الموطدإن يكن مشرقا لعينيك إنيلا أراه من كوة الكوخ أسودالنجوم التي تراها، أراها،حين تخفى وعندما تتوقدأنت مثلي من الثرى وإليهفلماذا يا صاحبي التيه والصد؟لا يكن للخصام قلبك مأوىإن قلبي للحبيب أصبح معبدحقا ما أجمل هذه المعاني؟ وما أزكى تلك الروح البسيطة السهلة في مبناها ومعناها؟ إنها القطوف الدانية التي أراها جديرة بأن تكون صفة كل أحد يرنو لأن تكون نفسه في خير مقام، فما أحسن أن تكون النفس قريبة بلطف، تتدلى بثمارها بيسر لكل من يشتهي معرفة، وتتوق نفسه لصحبة طاهرة، وعلما صافيا، وعشرة نقية، فتدنوا إليه بسكون العارفين، وصدق المتبتلين.إنها القطوف الدانية التي تتنزل على صاحبها سلاما ونجاة، مصداقا لقول نبينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أخبركم بمن يحرم على النار، وبمن تحرم عليه النار؟ على كل قريب هين سهل). فهنيئا لكل من حباه الله بذلك، وهنيئا لكل روح دانية تمثلت في ذاتها كينونة ما أراده الله من يسر وتواضع وسمو في الخلق والقيم الأصيلة، وما أحوجنا إلى تعزيز ذلك في حياتنا، فقيمة المرء بمخبره وليس بمظهره، وبما يحسن فعله وقوله، وفي حينه سنخط طريقنا الحضاري بثبات، ونحقق المراد الأسمى بأن نكون على قائمة المجتمعات الأكثر تقدما ورقيا.zash113@