makkahnew

الرأي

ثقافة هويتها الفراغ منزوعة الدسم

ثقافة هويتها الفراغ منزوعة الدسم ثقافة هويتها الفراغ منزوعة الدسم
زيد الفضيل
حين أتذكر مسلسلات ومسرحيات وأفلام محمد الماغوط وسعد الله ونوس من سوريا، أو أسامة أنور عكاشة من مصر، أو وليد سيف من فلسطين، ناهيك عن توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وأنيس منصور ويوسف السباعي ويحيى حقي وحنا مينة وغيرهم من الأدباء المصريين والعرب، الذين تم تحويل رواياتهم إلى أفلام سينمائية ومسرحيات خالدة ومسلسلات لا تنسى، أستشعر بأننا عشنا زمنا حفيا بالمعرفة، ومكتنزا بكثير من الأفكار والآراء المتنوعة والعميقة التي شكلت خريطة وعينا الذهني.والمؤسف أن ذلك لم يعد حاضرا اليوم، حيث ومع ابتداء الألفية الجديدة دخل المشهد الثقافي العربي مرحلة جديدة من التشكل قوامها الفراغ بوجه عام، إذ وبدلا من أن تتعالى وتيرة الخطاب الفكري، ويأخذ ملمحا فلسفيا جديدا ومتسقا مع طبيعة الحراك الدائر خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أخذ المشهد في التراخي والدخول تدريجيا في بوتقة الفراغ.فالفكر القومي وما شاكله من أفكار اليسار واليمين قد تلاشى، والحداثة وما صاحبها من ضجيج وصخب قد انتهت، وأخذ التصور الإسلاموي للدولة والمجتمع في التحول نحو العنف بما تمثلته «القاعدة» ومن ثم «داعش» من أعمال إرهابية، وكل ذلك تزامن مع فجوة فلسفية، ورؤية فكرية مقبولة، تسهم في صياغة خطاب ثقافي جديد، يشكل سمات المشهد خلال الوقت الراهن.وازداد هذا الفراغ في النسق الفكري توغلا مع بروز ظاهرة وسائط التواصل المجتمعي «السوشل ميديا» التي سمحت لكل أحد في أن يقول ويكتب ما يشاء، وفي أي وقت يشاء، وينشر ذلك دون رقيب أو حسيب، ثم إذا تعود على ذلك ووجد استجابة من أشخاص يماثلونه في الوعي والمستوى، تصور أنه قد أصبح مثقفا، وأخذ يتحدث من مركزية انتمائه للمشهد الثقافي، وهكذا يولد الفراغ فراغا آخرا من الوهم، ليصبح الوهم حقيقة، ويتحول السراب إلى قيمة ضمن أفاق المنجز الثقافي.في مقابل ذلك بات طبيعيا أن يصبح مشاهير «السوشل ميديا» رموزا ثقافية بين جيل الألفية (Y) وجيل ما بعد الألفية (Z)، وحتما فما يقدمه أولئك من محتوى لا يرقى لأن يكون ثقافيا وفق معايير الثقافة المتفق عليها، كما أنهم قد أسسوا لثقافة «الدقيقة ونصف» التي عمقها المسوقون حال إنتاجهم الإعلاني، ثم جرى تنفيذ ذلك على التسويق الإعلامي، وصولا إلى التسويق الثقافي، بحيث توجب على المثقف الحقيقي - إن أراد أن يكون حاضرا في المشهد الجديد - أن يختزل فكرته الثقافية بحيث لا تتجاوز الدقيقة ونصف، وهو أمر يصعب تحقيقه بأي حال من الأحوال، كما يصعب على المثقف الواعي أن يجاري في حركته السقوط القائم، فيجد نفسه معزولا باختياره أو بغير ذلك، وتأخذ الساحة في تكريس الفراغ الذي يسمى ثقافة، ليتشكل المشهد في نهاية المطاف من ثقافة فارغة من أي قيمة ومحتوى.وتزامن مع كل ذلك موت الوسائط التقليدية للثقافة والمعرفة والتي مثلها من قبل البرامج الثقافية في الإذاعة والتلفزيون، والكتابات الجادة في الصفحات والملاحق والمجلات المعرفية، علاوة على ما شاركت به الأندية الأدبية الثقافية بوجه عام، وما قدمته فروع الجمعية السعودية للثقافة والفنون.مع الإشارة إلى أن كثرة منصات «البودكاست» الثقافية، لم تؤثر في طبيعة المشهد القائم، ولم تغير من سلوكه على صعيد المضمون وقيمة المعرفة، بل لعل بعضها قد أسهم في تسطيح الأفكار وإفراغ المضامين من أي قيمة معنوية.في جانب آخر فقد أدى هذا الضمور في المعرفة، والجهل بقيمة الموروث ورموزه بين جيل الألفية وما بعد الألفية، إلى بروز ظاهرة الإعجاب بالمنجز الغربي، والاهتمام بدعوة نماذج منهم بوصفهم روادا وصانعي معرفة، على أن الأسوأ أن يتجه المشهد للاهتمام بالكم وليس الكيف، ويكون أسيرا لمؤشرات تسويقية ترتكز على عدد المتابعين دون النظر إلى جودة المضمون ومدى موافقة ما يقدم مع الحس والبرهان الثقافي.أختم بالإشارة إلى أن من أكبر المخاطر الثقافية أن يتم تكريس القطيعة المعرفية ووقف قطار التراكم الثقافي، بسبب جهل كثير من الأجيال الناشئة، وعدم اهتمامهما بتوثيق عمقها المعرفي، ناهيك عن تركيزها على الثقافة الظاهرية دونا عن الاهتمام بالغوص في دروب التأويل والحفر والتفكيك، الذي يستلزم مداومة القراءة والبحث، وهو ما ينزع الدسم عن ثقافتنا المرجوة، فتكون زبدا يذهب جفاء بعد حين، والله المستعان.zash113@