خالد الفيصل.. الطفل الذي نما في أوساط المعرفة
الثلاثاء / 20 / جمادى الآخرة / 1445 هـ - 15:43 - الثلاثاء 2 يناير 2024 15:43
منذ نعومة أظفاره والثقافة تتمظهر في صفاتهوالمعرفة تحيط بمهجعه، إذ ربا في روابي الفكر وشبّ في محضن الوعي، مما قوّم سماته وهذّب إمكاناته ونمّى قدراته الخلاقة حتى صار أديباً أريباً يخط أجزل القصائد الشعرية، إلى جانب تمكّنه من الرسم التشكيلي حيث طوّع ريشته كي ينتج لوحاتٍمن وحي أبداعه المستلهم من تراث وطنه.
ولهذه الغاية اضطلعت وزارة الثقافة بالاحتفاء بصاحب السمو الملكي الأمير خالد بن فيصل بن عبد العزيز آل سعود من خلال معرض 'موطن أفكاري' في الرياض من 23 ديسمبر إلى 3 يناير 2024، حيث قدّم هذا الرمزَ الغالي والنفيس في تجارب استثنائية حافلة.
وفي حين أن الطفولة بئر الكائن؛ المسكون بمعارفومواقف وتعاليم تعرّض لها عقله وخزّنها؛ كانت حياة 'الفيصل' أرضاً مبكاراً ومصدراً ملهماً، ومرحلةًتأسيسية نيّرة لمثقفٍ سيقود فيما بعد حركة التنمية من قلب مراكز محورية، كما أنها فترة تلقّف بها دروساً مباشرة وغير مباشرة تشرّبها بشخصيته الفذة التي بانت ملامح عبقريتها منذ صغره، ولأجل هذا استحقت هذه الرحلة الوضّاءة تتبّعاً دقيقاًووقفاتٍ تتأمل إيناع شخصية الفيصل الثقافية والعملية.
التكوين الأول
في 30 فبراير عام 1940م وُلد الأمير خالد الفيصل في مكة المكرمة، معلناً وُلُوجَهُ إلى الحياة بصيحةٍفطرية أطلقها في أطهر بقعة على هذه الأرض؛ أثناء فجرٍ ساكن يتقشّع ظلامه وتهب نسائمه الروحانية.
وبعد أيام، وصلَت من الرياض برقية مدوّنة بتوقيع الملك عبد العزيز -طيّب الله ثراه- فيها اسم المولود، فيما كان الملك فيصل -رحمه الله- في مهمة خارج البلاد، ووفَد عبد الله السليمان وزير المالية آنذاك، وأذّن في مسمع المولود وقال: 'سماه الله خالد'.
وقبل أن يُتِمّ ذلك الطفل عامَه الثاني، انفصل والده عن والدته هيا بن تركي بن عبد العزيز بن عبد الله بن تركي، ليذهب مع شقيقه سعد وشقيقته الكبرى نوره برفقة والدتهم إلى الأحساء عند أمها سارة بنت عبد الله بن جلوي، وخالها سعود بن عبد الله بن جلوي.
في هذا التكوين لا تحتفظ ذاكرة الفيصل بالكثير من التفاصيل، بيد أنه استشعر آنذاك بأنه في كنفٍحازم وصارم، علاوةً على مشاهد تعاوده من مجالس الأمير سعود حيث كانت له هيبة يتحاشى سطوتَها العقلاء والجهلاء. مكث الطفل هناك أربع سنوات قابل في غضونها والدَه وجدَّه، وقتما وفد الملك عبد العزيز ونائبه العام في الحجاز الأمير فيصل إلى الأحساء، فيما تأهّب خالد وسعد لاستقبالهما فيالمطار، ويصف الفيصل الموقف من نظرته قائلاً: 'لم أشاهد مثلهما أحداً في حياتي وتَسمّرَت قدماي وتعلقت عيناي وتحققت أمنياتي' ويتحدث عن رؤيته الأولى للملك: 'هذا الرجل الذي لم أر مثله رجلاً، شامخ القامة رفيع الهامة في وجهه صرامة وفي شفتيه ابتسامة وفي نظرته شجاعة وشهامة'. ويكمل كلامه عن أبيه: '.. وفيصل بن عبد العزيز نائبهالعام في الحجاز، طويل نحيل، وسيم جليل، له ابتسامة جذابة ونظرة عميقة خلابة.. أرسلها إلي لتقرأ العتب البريء في عيني، فحضن جرأة براءتي وقبّلني، كم كان لذلك اللقاء من وقعٍ وذكرى أرسمها اليوم بعد السبعين على صفحة العمر نثراً وشعراً'.
جلس الملك عبد العزيز أياماً في الظهران قبل أن يقرر العودة إلى الرياض، وحين شارف على ركوبالطائرة والجموع خلفه والعيون تحدق به.. التفت إلى الأمير سعود بن جلوي وقال: ' يا سعود ترى فيصل يبي عياله، نبي نرسل لهم الطيارة وروّحهم لنا'.
لم يمض وقت طويل حتى حطّت الطائرة في صحراء الهفوف لِتُقِلَّ خالد وأشقاءه إلى الرياض، ويصفشكل مطارها الذي نزلوا به قائلاً: 'مطار الرياض لا يزال صحراء، والرياض لا تزال حبيسة أسوارها يحيطها نخيلُها وتزهو بتاريخها، وكعادة عبد العزيز في أنه لا يعترف بحصار الأسوار، فبنى قصره خارجها ليقود منه انطلاقة تنميتها فتمددت المدينة الحديثة لتلحق به من 'بوابة الثميري' إلى المربع ثم المطار.
باكورة النضوج
ما أن عاد 'الفيصل' إلى العاصمة حتى حزم حقائبه صوب جدة، وكان من ضمن مستقبليه أخوه الأمير محمد، ثم جاءت سيارة ترجّل منها شاب وسيم طالما سمع عنه وتمنى لقاءه، وهو الأمير عبد الله الفيصل وكيل النائب العام للملك في الحجاز، وهو من له تأثير كبير في حياة أخيه منذ ذلك اليوم حتى يوم وفاته -رحمه الله-.
توجه 'الفيصل' إلى مكة وذهب إلى منزله المولود به.. وفي تلك الأثناء أشارت والدته إلى غرفة المجلس وقالت: 'هذا مجلس فيصل.. وأنت ابن فيصل.. اجلس للناس في مجلس أبيك وأحسن استقبالهم واستمع واستوعب'. تذكّر هذا اليافع الذي بدأت قيمُالقيادة والحنكة تتجلى فيه رجلاً صاحبَه في الأحساء بأمرٍ من الملك فيصل اسمه حسين بن عبيّد، وكان إذا لعب الأمير مع الأطفال قال له: 'نبيك مثل أبوك تشد وتنزل وأنت تبي تلعب مع البرزان؟'. وبطبيعة الحال يحزن ذلك الصبي، إلا أنه في هذه اللحظة يعيد له الفضل قائلاً: 'أزعجني صغيراً وأفادني كبيراً'.
ها هي بداية البداية واللحظات الأولى التي كوّنت شخصية سموه، مدركاً لكل ما يعترضه ويَقِظاً لكل ما يجري له، حتى بات يرسم مسيرةً مليئة بالإلهام، ويضع بصمته الجلية على المكان وإنسانه، فهو الأديب الأريب والفنان التشكيلي والقيادي الحصيف الذي يقدّر قيمتَي 'العقل والوعي' في بناء الأوطان ودورهما في الحفاظ على الثقافة والاعتناء بالحضارة.