الرأي

جاهليتنا القريبة في مهب التلاشي!

أحمد الهلالي
في صغري، سمعت الكبار يتحدثون عن زمن الجاهلية، ولا أعلم شيئا عن ذلك، وفي سنوات الدراسة كان مصطلح الجاهلية يطرق سمعي، بمعناه المعروف عن زمن ما قبل الإسلام، لكن بدا لي قلق بين مصطلح أهل الديرة، والمصطلح الدراسي، فالأول قريب، يتصل بأجدادي قريبي العهد بزماننا، بأسمائهم وقصصهم، وحين دققت وجدت أن مصطلحهم يتعلق بالحقبة التي كانت ديارنا لا تخضع لحكم فعلي فيها، وبالتدقيق أكثر وجدت أن الحقبة المقصودة بمصطلح (الجاهلية) في أدبياتهم هي التي سبقت العهد السعودي، فقد كان معظم الناس يعيشون زمنا جاهليا حقيقيا، الغلبة فيه للأقوى، وتحت وطأة الجهل والجوع وانعدام الأمن تنامت ظواهر الغزو والنهب والسلب والقهر، وصارت أيقونة في مفاخر القبائل والأفراد، وما تزال آثار تلك الثقافة تصبغ بعض أغراض الشعر الشعبي (الفخر والمدح) بحمرة واضحة لم يتخلص من بعضها إلى اليوم، كتبت عنها مقالة (الخطاب الأحمر).تلك الحقبة التي قبعت فيها الجزيرة العربية في منطقة الظل في عهود الدول الإسلامية المتتابعة، خاصة في العهد العثماني الذي قصر اهتمامه على المقدسات وقليل من الحواضر المنتجة، هي الحقبة التي أطلقوا عليها مصطلح (الجاهلية)، فلا سلطان يبسط الأمن وينشر التعليم والتنمية في مساحات شاسعة من جزيرة العرب، حتى أثخن الجوع، وفشا الجهل، وقل التدين، أو تشوهت معالمه، فكان ما يشبه العَود إلى زمن ما قبل الإسلام، حتى أن الذاكرة الاجتماعية للمواقف والأحداث عادت للاتكاء على الشعر، وفي تعذر التدوين اعتمدوا على الشفاهية والرواية.إن الذاكرة الخصبة لتلك المرحلة تكاد تنحصر في الشعر الشعبي، وجزء أقل منها ينبث في القصص والأخبار والأمثال والأساطير والخرافات، وهي تمثل ذاكرتنا الثقافية والتاريخية التي يجب أن تعني لنا الكثير، فقد تراجع خلالها المجتمع إلى حقبة الجاهلية، وشاعت الكثير من أدبياتها فيه، الغزو والسلب والكهانة والعرافة والتشاؤم والطيرة والخرافات والشركيات، والانتحال، وفي مقابلها برزت نماذج إيجابية في العدل والحكمة والفروسية والكرم والإيثار والنجدة والجوار، كما حوى عددا من قصص التضحية، والعشق، والتمرد والصعلكة، وكل هذه المظاهر حقيقة بالنظر والرصد والتحليل والاستنطاق من خلال المدونة الشعبية (الشعر والقصص والأمثال والأساطير والأخبار وكتب الرحالة) وفي كل منطقة من مناطق الجزيرة العربية ما فيها من هذه الأنواع الأدبية، بأشكال وألوان مختلفة.إن عناية وزارة الثقافة وهيئاتها بذاكرة الجزيرة العربية، وتحللها من عقد إقصاء الأدب الشعبي ونبذه، وانفتاحها الكبير على كل أنواعه وألوانه؛ كل ذلك يفتح أملا في أن تتبعها المؤسسات الكبرى، الجامعات ممثلة في كليات الآداب واللغة العربية والتاريخ والفنون وعلوم الاجتماع والأقسام المشابهة، ودارة الملك عبدالعزيز، وجمعيات الثقافة والفنون، والمتاحف، والباحثين المهتمين، ما يوجب أن تجتمع كل تلك الجهات لتوحيد جهودها تحت مظلة مشروع وطني عملاق، يصنع القنوات ويشجع الباحثين، ويبادر إلى جمع أجزاء تلك الذاكرة الشاسعة من بطون الكتب، ومن صدور الرواة من الآباء والأجداد والأمهات والجدات الذين يحفظون كثيرا من مرويات قديمة ستتلاشى بوفاتهم أطال الله في أعمارهم، فنحن نخسر كثيرا منها في ظل ثقافة المجالس اليوم، فلم تعد تتسع لأحاديثهم ومروياتهم، بعد أن فقدت سلطتها الاجتماعية، وباتت مجالس هرج جماعي لا يخرج المرء منها إلا برأيت فلان وتحدثت مع فلانة، وصور ومقاطع تذكارية.ahmad_helali@