الرأي

نحو تنمية ثقافية مستدامة

موسى الحريصي
ظهرت في آخر خمس سنوات في المملكة العربية السعودية مؤسسات ثقافية حديثة متخصصة في مجال التنمية الثقافية والعمل على تطوير الفكر الثقافي والمعرفي، من خلال استحداث مسميات وهيئات حكومية وأهلية ذات اهتمامات ثقافية تهتم بالشأن الثقافي والأدبي وتشكيلة وصناعته بشكل مدعوم من قبل الفعاليات المجتمعية التي أشرف على تطويرها وتصميمها خبراء لهم اهتمامات في مجالات متنوعة مثل السياحة والفكر والثقافة والتاريخ والأدب بالإضافة إلى الاستعانة بالخبرات العالمية عالية الكفاءة.وقد شهدت هذه الفترة طفرة تنموية غير مسبوقة على مستوى الوطن العربي من حيث بروز الحركة الثقافية المعاصرة وتبلورها من خلال إعادة النظر في صياغة وطرح أنظمة وقوانين تكاملية تعاونية شاملة تسعى لتحقيق هدف واحد ورؤية طموحة. على سبيل المثال لا الحصر وزارة الثقافة حينما وضعت رؤيتها القائمة على أساس ازدهار المملكة العربية السعودية بمختلف ألوانها الثقافية لتشكيل وإثراء نمط حياة الفرد بشكل يعزز من هويته الوطنية ويشجع على إثراء الحوار الثقافي مع العالم.حيث قامت الوزارة بوضع رؤيتها على ثلاث ركائز أساسية تنطلق منها جميع المؤسسات الثقافية وهي الثقافة كنمط حياة، والثقافة من أجل النمو الاقتصادي، والثقافة من أجل تعزيز مكانة المملكة العربية السعودية في العالم.من هذا المنطلق استطاعت الوزارة أن تحقق رؤيتها وفق استراتيجية 2030 من خلال تأسيس ودمج هيئات ومؤسسات ثقافية مثل قطاع التراث والمتاحف والمواقع الثقافية والأثرية وإنشاء هيئات جديدة تهتم بفنون الطهي وفن المسرح والسينما والموسيقى والفنون البصرية وفن الأزياء وغيرها من المؤسسات التي تشجع على تنمية القطاع الثقافي السعودي لكي يعكس حقيقة الماضي العريق ويسهم في بناء مستقبل يعتز بتراثه وأصالته من خلال بوابة عالمية جديدة مختلفة من حيث الإبداع والعرض الثقافي المستديم.تعتبر هذه المرحلة التي قامت بها السعودية وبالأخص وزارة الثقافة من أهم المراحل على مستوى تاريخها التنموي، بل جدير بها ان تكون مرحلة الحداثة الأولى.فقد لعبت دورا هاما في انتعاش القطاع الثقافي من خلال العمل على تنميته بأسلوب ممنهج مبني على قواعد وأسس إدارية احترافية. على سبيل المثال إقامة فعاليات تراثية ومعارض ومهرجانات للطعام السعودي الأصيل ومعارض تشكيلية وحرفية سعودية.وقد نجحت في تنظيم فعالياتها الثقافية مثل «معرض الكتاب الدولي» الذي يلعب دورا هاما في تعزيز التواصل الحضاري بين الكتاب والأدباء ونشر مؤلفاتهم، أضف إلى ذلك أن ساحات الفكر والفلسفة وصوالين الأدب لم تكتف بوجودها في الأندية الأدبية فقط، بل إنها قامت بإعادة دور المقاهي الأدبية العربية والسعودية بشكل يحاكي هويتها الثقافية.والشيء بالشيء يذكر وأنا هنا لا أستطيع ان أقف مكتوف الأيدي دون ما أذكر جزءا من تاريخ المقاهي الأدبية في السعودية وفي الوطن العربي خلال العقود الماضية.المقاهي الأدبية وما أدراك ما المقاهي الأدبية، للمقاهي الأدبية حكايات وقصص في العالم العربي وليست وليدة اليوم. بل إن سر عودتها اليوم هو بلا شك مبادرة من وزارة الثقافة لتحقيق بعض من خططها التنموية المستمدة من تراث هذا الوطن وماضيه العريق.شهدت حقبة الستينيات والعقود الماضية نوعا من الحراك الثقافي والأدبي لمع نجمها على مستوى الوطن العربي والخليجي.ففي بغداد والقاهرة وبيروت ومدينة جدة والرياض صولات وجولات للمقاهي الأدبية وكان أشهرها مقهى المودكا الذي يقع في شارع الحمراء البيروتي.فقد كان للراحل عصام محفوظ تاريخ في ذلك المقهى الذي كان يتذمر منه دائما لأن بيته بعيد عن المقهى الذي كان يجمعه بشكل دوري مع مجموعة من الأدباء وكان يقول دائما لو ربحت جائزة مالية كبيرة سوف أشتري الطابق الذي يقع فوق المقهى. بينما الكاتب والأديب المصري نجيب محفوظ شاع عنه أنه كان يرتاد أغلب مقاهي مصر الشهيرة في كل يوم جمعة من السادسة إلى الثامنة والنصف مساء له ندوة استمر في إلقائها حتى منتصف الستينيات. وفي تلك المقاهي قد عقدت اجتماعات ضمت أبرز فناني مصر وعلى رأسهم أم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب حتى أسفر عن إنشاء أول نقابة للموسيقى في مصر والعالم العربي.أما بغداد فقد كانت مقاهيها في شارع الرشيد أشبه بميناء يجمع المشاهير من الأدباء أمثال جميل صدقي الزهاوي والمفكر علي الوردي والأديب معروف الرصافي. كانت تمتاز بعض المقاهي البغدادية بقوانينها الخاصة وأشهرها مقهى البرازيلي الذي كان لا يقدم لزبائنه سوى القهوة. استطاع مجموعة من مرتاديه الأدباء أن يضعوا لهم شعارا خاصا بهم يقول: نحن إخوان الصفا وخلان الوفا والحكي بالقفا.. وعندما أقفل هذا المقهى رثاه أحد الشعراء بقوله:قف بالطلول، وقل يا دمعتي سيليأخنى الزمان على مقهى البرازيليكأن أيامه لم تحوِ لندوتناولا تضارب فيه القال بالقيلتحارب الظلم والطغيان ألسنناإذا تقاعس كتّاب الجرانيلففي تلك الحقبة كان هناك نهضة وحراك أدبي لمدينة جدة وتاريخ عاصره الأديب السعودي حسين علي حسين مع المقاهي السعودية ابتداء من مدينة جدة وصولا لمقاهي مدينة الرياض.فقد روى عن مقاهيها البارزة مثل مقهى الطوال ومقهى المحكمة وكان لمقهى الطوال نصيب وحكاية مع طوال جازان لا نعرفها. فقد كانت تلك المقاهي أشبه بملتقى للأدباء والصحفيين.رغم كل ذلك إلا أن تلك الفترة كانت فيها تحديات ومعاناة تقف في وجه الحركة الثقافية السعودية نتيجة لغياب استراتيجية واقعية متكاملة الرؤى والأهداف توضح مالها وما عليها من نتائج معرفية واقتصادية تسعى لتحقيق رفاهية الفرد وانفتاحه على المجتمع المحلي والدولي.كان المجتمع السعودي يواجه مثله مثل غيره من المجتمعات تحديات أهمها ضعف البنية الإدارية في التنسيق بين المؤسسات والجهات المعنية بقطاع الثقافة. ناهيك عن ضعف الدور الذي يلعبه المثقفون في رفع مستوى الوعي الثقافي.ومن المتوقع وفقا للمعطيات الحالية والأسلوب التنمية الحديث فقد أصبح البعد الثقافي جزءا من الممارسات والفعاليات المجتمعية لمجتمع كان بالأمس تقليديا محافظا بعد حالة الانحسار الثقافي والمعرفي التي كانت تعاني منه الدولة إلا أن هناك عوامل عديدة جعلت منه مجتمعا منفتحا متقبلا للآخر يحمل الشخصية الثقافية السعودية محافظا على خصوصيته وقيمه نحو تنمية ثقافية سعودية مستدامة.