سردية الجرح الفلسطيني
السبت / 3 / جمادى الآخرة / 1445 هـ - 21:05 - السبت 16 ديسمبر 2023 21:05
وأنا أطالع كتاب «سردية الجرح الفلسطيني: تحليل للسياسة الحيوية الإسرائيلية» لمؤلفيه الطبيب غسان أبو ستة والكاتب الصحافي ميشال نوفل والصادر عام 2020م، أدركت جوانب عميقة في تفكير الحكومة الإسرائيلية ونظرتها للوجود الفلسطيني وسبل تعاملها معهم وفق خطة طويلة المدى، الهدف منها إنهاء الوجود المعنوي والحيوي لشخصية فلسطين وهويتها الذهنية، وهو أسوأ أنواع الاجتثاث الذي يمكن أن يتعرض له مجتمع وشعب أيا كان موقعه وفي أي زمن كان.في مقدمة الكتاب ذكر المؤلفان بأن الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي قد تميز في مجال الإدارة الحيوية لفلسطين بالسعي المستمر والحثيث إلى التحكم بمفاصل الحياة والصحة والمجال العام، مستخدما مفهوم السلطة الحيوية الهادف إلى فرض التجزئة على الجغرافيا الفلسطينية وتقطيعها إلى معازل منفصلة تمنع الكيان الفلسطيني من التحرر من التبعية الاقتصادية والسياسية لإسرائيل، وتحد قدرتهم على تفكيك آليات السيطرة الكولونيالية؛ مشيرين إلى أن النسق المعروف باسم مفهوم السلطة الحيوية (biopower) قد طبقته الدول الاستعمارية في أمريكا وأفريقيا وأستراليا وغيرها، ونتج عنه إبادة السكان الأصليين وتدمير حضارات تاريخية عريقة مثل: المايا والإنكا في أمريكا الوسطى والجنوبية.وأشار المؤلفان إلى أن الدولة اليهودية في فلسطين المحتلة قد عمدت إلى تطبيق مفهوم السلطة الحيوية بهدف إبادة شعبها العربي الأصيل بذريعة أنها أرض بلا شعب، وكان أن أرادت بـ»ممارستها للتطهير العرقي وإرهابها الشامل، تفريغ فلسطين المحتلة عام 1948م من حيويتها البشرية وطاقتها السكانية وتحويل فلسطيني الداخل إلى كتلة هامشية، غير أن المقاومة الحيوية المستمرة للشعب الفلسطيني، واستيعاب صدمة النكبة، فرضا تحديا على السياسة الحيوية لإسرائيل، فكان أن استمرت بعد احتلالها لفلسطين عام 1967م من تعميق سياستها الهادفة إلى تطويق الفلسطينيين بمستوطنات يهودية، مع تكثيف الخناق عليهم وتفتيتهم ضمن دوائر ضيقة محاصرة ومحرومة من شروط العيش الكريم».وأشار المؤلفان في كتابهما القيم إلى إيمان القيادة الإسرائيلية بأن نجاح هذه السياسة الهادفة لاجتثاث فلسطين تستلزم تكثيف عمليات التطهير العرقي، وهو ما دعا له بن قوريون عام 1947م قائلا: «لا يمكن أن يكون هناك دولة يهودية مستقرة وقوية ما دامت الأغلبية اليهودية فيها لا تتعدى 60%»، الأمر الذي تبناه بنيامين نتنياهو بعد ذلك في مجمل سياسته والتي ابتدأها بقوله في عام 2003م: «إذا صار العرب يشكلون 40% من السكان فإن ذلك سيؤدي إلى نهاية الدولة اليهودية».من هنا يمكن إدراك المغزى من كل سياسات التطهير العرقي الذي تمارسه الحكومة الإسرائيلية بحق أهلنا في فلسطين، وهو الشيء الذي يتفق عليه الإسرائيليون بمختلف توجهاتهم السياسية يمينا ويسارا، حيث عملوا جميعا وبعد فشلهم في تمييع الذاكرة والهوية الفلسطينية، إلى اتباع سياسة الإبادة الجماعية لشعب عربي أعزل، وهو ما سعى إليه ليبرمان زعيم حزب «إسرائيل بيتنا» اليميني ومختلف الأحزاب الدينية اليهودية من خلال إرادتهم ترحيل فلسطيني الداخل الصامدين إلى الضفة الغربية، مع تكثيف عزل المجتمعات الفلسطينية عن بعضهم البعض.إذن القضية اليوم وما نشاهده من أعمال إبادة وحشية في حق أهلنا في غزة، ليس سببه الانتقام من هزيمة نكراء في السابع من أكتوبر، وليس هدفه القضاء على المقاومة والكفاح المسلح، وإنما غايته استكمال خطتهم في عمليات التطهير العرقي لشعب أعزل، كل جريمته أنه أراد أن يعيش على أرضه التاريخية بكرامة، وأن يتمتع بحريته أسوة بباقي شعوب العالم، وبالرغم من موافقته السياسية لأن يقاسمه شذاذ قدموا من جميع أنحاء العالم جزءا كبيرا من أرضه، وأن يؤسس دولة له على جانب صغير من أرضه، وبالرغم من جلوس قادته على طاولة المفاوضات، بل وتوقيعهم اتفاق سلام برعاية أمريكية ودولية، لكنه لم يحظ بما يريد، وكان أن حوصر الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في مقر إقامته والتي تعرف بالمقاطعة، ومات مسموما بعد ذلك، ومن مآسي الزمن أن كل ذلك قد تم في الوقت الذي أعلن فيه العرب عن مبادرتهم العربية للسلام في قمة بيروت عام 2002م، والتي لم تستجب لها إسرائيل حتى اليوم. فهل من واع فيتدبر؟أشيرا أخيرا إلى أن غسان أبو ستة وهو أحد مؤلفي الكتاب الذي اقتبست عنوانه ليكون عنوان مقالي هذا، هو الطبيب الفلسطيني المناضل الذي سخر علمه لمعالجة الجرحى والمصابين في مستشفيات غزة منذ سنوات طويلة وحتى اليوم، وبات شاهدا على استهداف الآلة العسكرية الإسرائيلية للشعب الفلسطيني الأعزل بهدف تنفيذ عمليات التطهير العرقي المخطط لها، عبر وسائل متنوعة ومنها استهداف المنظومة الصحية الفلسطينية الهزيلة دون مراعاة لأي قيمة أخلاقية وقانونية، ومن ذلك قصفهم للمستشفيات في قطاع غزة ومنها المستشفى المعمداني الذي كان الطبيب أبو ستة في أروقته يكافح بمعدات بسيطة إنقاذا لما تهلكه الآلة العسكرية الإسرائيلية المتوحشة.zash113@