الإحياء العمراني بين الحقيقة وأسطورة «البَعّاتي»!!
السبت / 18 / جمادى الأولى / 1445 هـ - 22:06 - السبت 2 ديسمبر 2023 22:06
كل السودانيين يعرفون المقصود بـ «البَعّاتي»، فالأسطورة السودانية تشير إلى أن البَعّاتي هو العائد من الموت بعد دفنه.البعاتي مصطلح عربي مشتق من كلمة بعث ولكنها تنطق باللكنة السودانية «بَعّاتي» باستبدال الثاء تاء وتعني البعث بعد الموت أو عودة أشباح الموتى، حيث تتقمص الجسد روح عدائية تحاول أخذ حقوقها من الآخرين.أسطورة «البَعّاتي» محفورة في الذاكرة الشعبية للمجتمع السوداني وتشكل جزءا من ثقافتهم المحلية؛ بل إنها تؤثر أحيانا في اللاوعي.ولكن هذه الأسطورة لا قيمة لها حتى وإن كانت مثيرة للحس الفني وملهمة للعديد من كتاب الأفلام والروايات الأدبية؛ إلا أنها تظل جسدا بلا جوهر يظهر لساعات معدودة ثم لا يلبث أن يختفي كالأشباح.عودة أشباح الموتى يمكن توظيفها في رواية أو حكاية مسلية؛ ولكنها لن تضيف شيئا للمجتمع فالعائد - إذا سلمنا بصحة الأسطورة - هو مجرد جسد خاو بلا روح أصيلة تتملك جوارحه.وهذا يقودنا لتساؤل هام حول نظرتنا إلى المدن فجسد المدينة وحده لن يعبر عن شيء إذا لم يكن مقرونا بروح أصيلة للمكان.لقد أشرت سابقا إلى أن المدينة كالإنسان تتكون من الروح، والنفس، والجسد؛ فالجسد يعبر عنه بالإطار المادي والمتمثل بالبنية التحتية والطرق والمباني؛ أما النفس فهي تعبر عن المجتمع الذي يعيش في المدينة ويتفاعل معها؛ إذ لا يمكن بناء مدينة بلا سكان.أما روح المدينة فتتمثل بالجانب الثقافي الذي يعكس قيم أصالة المجتمع بما فيها القيم اللامادية في سياق التطور الاجتماعي والتجربة التراكمية التاريخية والإنتاج الفكري والسلوك الاجتماعي.من هذا المنطق، فإن الإحياء المادي للمناطق التراثية لا معنى له ولن يكون كافيا إذا كان بمعزل عن إحياء الجانب النفسي والروحي.بعبارة أخرى، عودة الروح ضرورية لتحكي حكاية الجسد، ثم يأتي الجسد ليعبر عن روح المكان.إن المناطق العمرانية في المدن يمكن أن تتدهور عمرانيا نتيجة للتقادم الزمني، أو المؤثرات المناخية، أو الزحف العمراني المستمر، أو حتى التخريب المتعمد.وتعد عملية الإحياء العمراني من أصعب التحديات التي تواجه إدارات المدن؛ لأنها لا تقتضي ترميم أو تأهيل أو إعادة بناء المناطق المتدهورة فحسب؛ بل إعادة تعيين الاستعمال الأمثل لها مع إدراك القيم المتعلقة بها وربطها في سياقها الحضري وصولا إلى مشاريع عمرانية مستدامة تحقق الاحتياج الوظيفي وتحافظ على الموروث الثقافي في آن واحد.إنها أشبه بإعادة الحياة للمكان روحا وجسدا تماشيا مع تطوير برامج اجتماعية واقتصادية تضمن نجاح المشروع واستدامته.إن مشاريع الإحياء العمراني المستدامة هي تلك التي تحافظ على توازن القيمة الثقافية جنبا إلى جنب مع الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية؛ لتصبح بيئات عمرانية تتكامل ضمن السياق الحضري وليست هياكل عمرانية منعزلة لا معنى لها لتمثل جسدا خاويا بلا روح أو جوهر.إن غياب المفهوم الشمولي للإحياء العمراني واقتصاره على المعالجة الجسدية لمناطق التدهور العمراني سوف يفضي إلى توليد بنية عمرانية غير ملهمة ولا روح لها.باختصار الإحياء العمراني هو منهج شمولي يقتضي إعادة بناء الجسد وعودة الروح الأصيلة للمكان، أنها عملية إحياء عمراني حقيقي وليست مجرد «بَعّاتي»!waleed_zm@