الرأي

مكاسب طوفان الأقصى

زيد الفضيل
اقترنت الحروب بالمآسي، بالبكاء، بالقتل والتدمير، فكيف إذا كانت من طرف واحد متجبر، كحال الإبادة والمحرقة التي يقوم بها الإسرائيليون تجاه شعب أعزل، أكثره من الأطفال والنساء والرجال، الذين لا يستطيعون حيلة ولا سبيلا. حتما، فالمأساة ستكون أكبر، وأنكى، وأصعب، وهو ما صرنا نشاهده صبح مساء، في كثير من الصور واللقطات المبثوثة عبر وسائط التواصل المجتمعي والفضاء الكوني.إنها حرب القوي المستبد الظالم الذي احتل أرضا، وقتل شعبا، وهجر أسرا، ومع ذلك فلم يهنأ بحاله، ولم يستقر مقامه، ولن يستقر وفي قوم أناس رضعوا النضال من حليب أمهاتهم، فلله درهم أحياء وأحياء.في هذه الحرب مارس الإسرائيليون، وأمام نظر العالم والحكومات الغربية، أبشع أنواع الجرائم المصنفة ضمن جرائم الإبادة، بحجة الدفاع عن النفس، ولعل هذه الجرائم التي يمارسونها هي أول مكاسب طوفان الأقصى، ذلك أن الآلة الإعلامية اليهودية قد لعبت خلال العقود الماضية على وتر الاستعطاف، الذي فرضوه عالميا من جراء تعرضهم لما أسموه بالمحرقة النازية، وعمدوا بقوتهم وشرائهم للذمم على استصدار قانون يجرم المعاداة للسامية التي اختزلوها فيهم، وأخذوا يبتزون الغرب جملة، وألمانيا بالخصوص، للتكفير عن جريمة أظنها متخيلة أو حتما مبالغ فيها.الآن، ومع طوفان الأقصى وضح الوجه الحقيقي لليهود، الذين يؤمنون دينا بوجوب قتل وتهجير واستعباد غيرهم، والذين يمارسون اليوم جريمة إبادة بحق شعب عربي أعزل، وكأن التاريخ يعيد نفسه حين مارسوا الجريمة ذاتها قبل مئات السنين، بحق شعب عربي أعزل في مدينة نجران التاريخية، والتي لا يزال شاهدها الأخدود قائما حتى اليوم.كذلك، فإن من مكاسب طوفان الأقصى، أنْ عادت القضية الفلسطينية إلى تصدر المشهد العربي والإسلامي والعالمي، وهو أمر راهن الإسرائيليون على انتهائه، وركنوا إلى أن العرب قد نسوا قضيتهم المركزية وصارت فلسطين في الخلف، ولا سيما أن آلتهم الصهيونية قد جندت في وطننا العربي من يطعن في القضية الفلسطينية، ويقلل من شأنها، بل ويجهر بصوت مسموع بأن فلسطين لم تعد قضيته.والأغرب حين تخيل الإسرائيليون بأن الفلسطينيين أنفسهم قد سئموا وتخلوا، وصار رجاؤهم الوحيد أن يعيشوا بسلام حتى لو تجرعوا مرارة الظلم، لكن كل ذلك قد تهاوى مع أول يوم من عملية طوفان الأقصى، فتوحد الشرفاء العرب من جديد حول قضيتهم، وخرج المسلمون شرقا وغربا ينددون وينادون بمحاسبة إسرائيل على جرائمها الإرهابية.على أن المكسب الحقيقي قد تمثل في تلك الجماهير الغربية الغفيرة، التي خرجت منددة بجريمة الإبادة والمحرقة التي يتعرض لها أهلنا في غزة، معارضة توجه حكوماتها، بل وغير مصدقة للآلة الإعلامية الصهيونية التي عمل عليها اليهود خلال عقود من الزمن، لكنها تهاوت مع أول أسبوع، وفقدت مصداقيتها، وانكشف عمق انتمائها للحركة الصهيونية، فخرج الناس آلافا مؤلفة في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأيرلندا وألمانيا والسويد، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية، وفي غيرها من بلدان العالم، أفرادا وزرافات، يهتفون ضد إسرائيل وقادتها وجيشها، وينادون بمحاسبتهم عدليا، ولعمري فذلك مكسب كبير لم يكن لأحد أن يتخيله، فإذا بطوفان الأقصى يثبت بأن فلسطين لا تزال قضية الشرفاء والأحرار في كل العالم، وهو المكسب الأسمى.في طوفان الأقصى انقسم العالم إلى فسطاطين، أحدهما فسطاط حق آمن باستحقاق الفلسطينيين في أن يمارسوا نضالهم المشروع ليعيشوا كرامتهم وحريتهم مثلهم مثل كل شعوب العالم، وأن تتوقف جرائم الإبادة بحقهم من المحتل الإسرائيلي، واجتمع في هذا الفسطاط المسلم والمسيحي واليهودي والبوذي، وغيرهم من العلمانيين والليبراليين في العالم. في مقابل فسطاط باطل جمع بين مسلمين ومسيحيين ويهود، ومن كل أشتات العالم وتوجهاتهم، وهؤلاء ساندوا الإسرائيليين في جريمتهم بشكل مباشر وعلني أو بغيره، وأضعفهم من ساند الباطل بالصمت واللمز هنا وهناك، وتلك صفة من صفات المنافقين.أخيرا، لقد أعادت صور المجازر الإجرامية التي تقوم بها الآلة الإسرائيلية الصهيونية، إلى الشباب العربي هويتهم، وكانوا في سبات عميق، وتلهف وراء المادة، غير أن دماء الأبرياء ودموع الثكالى وقهر الرجال، قد أعاد الشباب العربي إلى وعيه، فتراهم مناضلين بالكلمة للدفاع عن قضية فلسطين، ومواجهة الآلة الإعلامية الصهيونية بقدرات بسيطة، لكنها مؤثرة، وهو ما رأيته في مؤسسة الجيم والراء (جيرة) غير الربحية بالعاصمة الأردنية عمان، التي اجتمع فيها نخبة من الشباب يساندون بالكلمة أهلنا في غزة المذبوحة، بشرح واقعهم المأساوي، وكشف معاناتهم، لكل العالم شرقا وغربا عبر الفضاء الكوني الالكتروني، وهم واحد من مئات، وهي من أعظم المكاسب التي تؤكد أن فلسطين ستبقى حاضرة، وستعود قريبا.ولله الأمر من قبل ومن بعد.zash113@