القيادة من الخلف
الاثنين / 6 / جمادى الأولى / 1445 هـ - 22:03 - الاثنين 20 نوفمبر 2023 22:03
مصطلح يتردد كثيرا في أوساط القادة العسكريين ومن في حكمهم من مسؤولي العمل الإداري. بعيدا عن المعنى العسكري لهذا المصطلح وظروف نشأته، فإن له علاقة كبيرة ببيئات الأعمال، خاصة في بعض الشركات ذات التمدد الواسع على مستوى النشاط وغزارة الإنتاج.فكما يعلم الجميع أن هناك تنظيمات محددة تحدد مسار سلاسل الأوامر التي ينبغي أن تكون عليها طريقة أداء هذه المنظومات، والتي تتحكم في صلاحيات كل فرد فيها وفق تراتبية محددة، تحدد وترسم بعناية على ما يعرف بالهيكل التنظيمي لمنظومة العمل.مكان الصدارة في هذا الهيكل التنظيمي يكون لرئيس الشركة أو مديرها العام أو التنفيذي، سمّه ما شئت، وهو بهذا يكون على رأس الهرم، قادر على اتخاذ أي قرار وفي أي وقت.عملية اتخاذ القرارات تكون خلال تواصل كتابي مباشر أو أوامر شفهية، الأخيرة هي ما يستخدمه وبإسراف ذلك الصنف من المديرين، الذي يتعاطى الإدارة وفق مزاجه العام وما يؤثر عليه من ندرة أو وفرة لتلك الظروف والأسباب، التي ترفع من مستوى الدوبامين لديه، والتي تجعله دائما يتأرجح بين نقص حاد يفضي إلى عدوانية مقيتة، وإفراز يتجاوز الحدود الطبيعية فتجعله عالي المزاج (إيفوريا)، مدركا للأشياء عدا ما لا يراد له إدراكه.القيادة من الخلف في هذا الواقع الإداري المريض، تأتي ببسطاء سذج إلى واجهة العمل، يختارون بعناية فائقة، تكمن أهم صفاتهم في عدم امتلاكهم كاريزما القائد وشغفه، ويكون لديهم بعض جوانب النقص في شخصياتهم الناقصة أصلا، كأن يكون أحدهم ممن تعرض لحوادث عنف قديمة في مقتبل حياته، أو لا يشعر بقيمته أصلا في محيطه الاجتماعي الصغير، أو ما شابه ذلك من ظروف تفضي إلى شعور حاد بالنقص، يراد من هذا الناقص تعويضه بأي شكل من الأشكال.يوضع هؤلاء الصغار أمام العربة لجرها منتشين بصدارتهم للمشهد، ويكون خلفهم مديرهم الأعلى الذي يتعاطى معهم وفق أسلوب سائق العربة، الذي يركب في الخلف وبيده السوط، فيرخي الحبل مرة ويطلقه مرات كثيرة، ثم يقود العربة إلى الوجهة التي يريدها، وفي كل المناسبات والوجهات تجد هؤلاء القصّر منبهرين بشخوصهم، لا يرون المشهد إلا خلال ذواتهم الناقصة والقاصرة عن فهم كثير من الأشياء، وأولها أنفسهم وماذا يراد لهم ومنهم!.تسكر الصدارة وأضواؤها هؤلاء البسطاء، وتجعلهم لا يرون شيئا سوى الوجهة التي يراد لهم التوجه إليها، وفي كل رحلة عمل يقادون فيها، تزداد نشوتهم وشعورهم بأهميتهم، كيف لا وهم كالحمر المستنفرة في الصدارة، تقود المشهد وتؤثر فيه.لكن الحقيقة تقول غير ذلك، فمن يرى المشهد من زاوية أوسع يرى حقيقتهم بوضوح، فهم من زاوية أخرى كحيوانات السيرك التي تركب وتضرب بالعصى، وتطعم في الحلبة ويصفق الجميع، لكنه تصفيق للسائس الذي استطاع ترويضهم، وجعلهم مجرد حيوانات أليفة تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه.تقوم هذه الحيوانات ببعض الحركات البهلوانية، ولكنها حركات مرسومة لها بعناية لتجعلها في الصدارة أمام العربة، ومن خلفهم سوط يجلدهم ليدلهم على الاتجاه الإجباري الذي ينبغي عليهم أن يسلكوه ويأنسوه.ولأن لكل قاعدة استثناؤها الخاص، فإن التجارب تقول إن بعض مروضي هذه الحيوانات يفقد السيطرة عليها، خاصة عندما تجوع أو ينتابها شيء من فطرة الحيوان واحتياجاته، فينقلب الأليف إلى وحش، واللطف إلى عنف، كون هذه الحيوانات للتّو تفهم أنها مجرد دمى تضحك الحضور، وهذا ما يأنفه الحيوان الأصيل بعدما تعود إليه فطرته التي ولد بها.هنا يفقد العمل والعمال بريقهم وشغفهم، ويدخلون في أتون صراعات وخلافات تؤدي إلى نخر جسد المنظومة من الداخل، وتحويلها إلى بيئات تكسب وصراعات ظاهرة وخفية، تؤدي في النهاية إلى سقوط هذه المؤسسة، ودخولها في حالة من الإفلاس المادي والمعرفي والأخلاقي.كثيرة هي صور القيادة من الخلف، خاصة في جانبها السيئ الذي يتعاطاه بعض قادة هذه المنظومات، خاصة عندما يترك لهم الحبل على الغارب ليمارسوا غباءهم الإداري، ويفرضوا سيطرتهم الأسوأ تبعا لمزاج متغير لا يضبطه إلا كمية الدوبامين التي يعتريها النقص الحاد والزيادة المفرطة، وفي كلتا الحالتين تكون خارج الحدود الطبيعية، وهنا يكمن الخطأ وتكثر أشكاله وإشكالاته.alaseery2@