غزة بين العبور والعبَرات
السبت / 6 / ربيع الثاني / 1445 هـ - 21:41 - السبت 21 أكتوبر 2023 21:41
عبور فلسطيني بعشرات الكيلو مترات داخل أعماق الأراضي المحتلة، الأجهزة الأمنية الإسرائيلية خارج الخدمة موقتا، تفوق فلسطيني نوعي في واحدة من أغرب العمليات العسكرية وأكثرها جرأة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.السؤال: أين كانت إسرائيل يوم السابع من أكتوبر لتسرح تلك المجموعات المقاتلة الصغيرة وتمرح في الداخل الإسرائيلي، وتعود بغنائم كثيرة وأسرى بالعشرات، وفوق ذلك سقوط لهيبة إسرائيل وجيشها الذي لا يقهر، في مشاهد غريبة ووقائع تذكرك بحروب القرون الوسطى، عندما يعود المنتصرون على خيولهم رافعين رؤوسهم، محملين بغنائم كثيرة، تثبت نصرهم واندحار عدوهم؟.وكالعادة، إسرائيل تستغل الأحداث وليس بالضرورة أن تكون هي من صنعها، فتبدأ في قصف مكثف لغزة المعزولة، قصف استهدف الأطفال والنساء والشيوخ والمرافق الخدمية التي كان يجب أن تبقى بمنأى عن الحرب، هذا العبث الإسرائيلي هو في تقديري نتيجة لصدمة العملية المذلة التي تجرعها اليهود في إسرائيل، إضافة إلى حالة الارتباك والفوضى التي تعيشها قواتها المسلحة، فكثافة القصف على غزة وعدم تمييزه بين العسكري والمدني، يثبت أن الساسة الإسرائيليين وجنرالاتهم يعيشون أزمة نفسية غير مسبوقة، وممن؟، من مقاتلين شبه عزل، أسلحة يدوية وطيران شراعي أدمى إسرائيل، وأعادها إلى المربع الأول، وهاجسه الدائم، وهو هاجس الوجود ككيان غريب في وسط عالم عربي واحد، وإن كان غير موحد تجاه هذه القضية ومتغيراتها.أكثر ما رشح من العملية الأخيرة، هو هشاشة هذا الكيان وعدم قدرته على التعامل مع الخطر الحقيقي الذي يحيط به، وهو ما يجعلنا نتساءل: من صنع هذه الدعايات الغريبة لهذا الكيان وجيشه الذي ما زال في أنظار الكثيرين الجيش الأقوى والأكثر حظوة وحضورا في الساحة العسكرية اليوم؟. الأمر الآخر، هو الخطر الوجودي الذي يحيط بإسرائيل، فبعد قرابة الثمانين عاما ما زال هذا الكيان غير قادر على التعاطي مع ظروفه المحيطة، خاصة غزة، وربما الضفة في قادم الأيام. فالواقع يقول إن هذه العملية ستكون لها انعكاسات خطيرة على الداخل الإسرائيلي، لعل أهمها: قضية الأمن وضعفه أمام تنظيمات مسلحة بدائية، قياسا بما تمتلكه إسرائيل من ترسانة عسكرية هائلة، إضافة إلى أن صانع القرار الإسرائيلي سيأخذ في الحسبان مسألتين مهمتين عند التعاطي مع غزة تحديدا: الأولى، الجغرافيا؛ فغزة تقع في خاصرة هذا الكيان، وتمثل مصدر خطر حقيقيا تنامى وتشكل ليكون الأكثر ضررا لإسرائيل وشعبها (المحتار)، الذي ما زال مصدوما ومتفاجئا بقدرة هذه الفصائل المسلحة على الوصول إليه، وأين؟، في غرف نومه ومعيشته.الأمر الآخر: الديموغرافيا، والتي تميل حكما للفلسطينيين الذين يتكاثرون بنسب هائلة وكبيرة جدا، تجعل الميزان البشري يميل إلى صالحهم، وهذا مؤشر خطير جدا على كيان ما زال يستجدي المهاجرين، ويعدهم أن تكون فلسطين هي أرض الوعد والميعاد، وتأكيدا لذلك الطرح يقول المفكر المصري الراحل عبدالوهاب المسيري: إن الفلسطينيين قد هزموا الإسرائيليين في مجالين حيويين: مدرجات الجامعة، ويقصد بذلك مستوى التعليم وكثافته عند الفلسطينيين، وغرف النوم كناية عن التزايد السكاني الرهيب للفسلطينيين قياسا باليهود المغتصبين.غزة اليوم جرح ينزف، والعملية الفلسطينية في الداخل الإسرائيلي لم تكن السبب الوحيد الذي جعل إسرائيل تعربد في غزة. فغزة كانت وما زالت مصدر توتر وألم لإسرائيل، وما محاولة تهجير أهلها والدفع بهم إلى واقع جغرافي جديد سوى شاهد على حالة الصداع التي تنتاب السياسيين الإسرائيليين من هذا القطاع، الذي حُكم عليه بأن يكون سجنا كبيرا تقطع عنه كل مقومات الحياة، ويحكم على ساكنيه بالموت الجماعي البطيء.الأرض مقابل السلام، شعار رفعه العرب وضمنوه مبادرات كثيرة وتنازلات أكثر، في محاولة لجعل إسرائيل تقبل بحل الدولتين، والذي ما زال حلما بعيد المنال خاصة في العقلية الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، التي ما فتئت ترفض السلام وكل آلياته وأشكاله المقترحة. وحكومات الغرب كعادتها تغض الطرف عن الممارسات الإسرائيلية، وترى أن لها حق الدفاع عن نفسها، و كأن عشرات الأنفس التي تزهق يوميا في فلسطين ليس لها أي حق في الحياة، ويكفي أن بعض الساسة الإسرائيليين يتحدثون عن أهل غزة كحيوانات لا تستحق الاحترام ولا الحياة.غزة فصل جديد من فصول الظلم الذي يمارسه الغرب عبر وكيله المعتمد إسرائيل تجاه المنطقة العربية وشعوبها، وللمنخدعين بالنموذج الغربي نقول لهم: إن هذا النموذج قد سقط أخلاقيا، وإن شعاراته تظل كالرماد الذي يذر في العيون، وسياسات هذه الدول لا تعير الشعوب الأخرى أي درجة من الأهمية.فالعرب في نظرهم مجرد أعداد، وإن كثرت، فتقليلهم واجب تقتضيه العقلية الغربية وعقيدته المتجذرة، التي لا ترى في الشعوب الأخرى سوى أدوات موقتة تستعمل لنفع الغرب ومصالحه المادية البحتة، التي تظل الغاية التي تباح وتستباح من أجلها كل الوسائل والمبادئ والقيم.alaseery2@