النيجر: مؤشرات نوعية في الصراع الدولي
الأربعاء / 29 / محرم / 1445 هـ - 22:07 - الأربعاء 16 أغسطس 2023 22:07
ما حدث في جمهورية النيجر مؤخرا بشأن الانقلاب على سلطة الرئيس محمد بازوم قد حظي باهتمام دولي واسع بدرجة لافتة تعكس تنامي حالة الاستقطاب في العلاقات الدولية ووصولها إلى مستويات مرتفعة للغاية.
شخصيا لا أدري ماذا كان يدور داخل عقل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن وهو يؤكد لرئيس النيجر، المحتجز، على التزام الولايات المتحدة بإعادة الحكومة المنتخبة ديمقراطيا في بلاده إلى السلطة، وهل كان يقصد أن نحو ألف جندي أمريكي يتمركزون في النيجر لغرض مكافحة تنظيمات الإرهاب، يمكن الاعتماد عليهم لإعادة الرئيس بازوم إلى منصبه بالتنسيق مع الدول الإقليمية المعنية؟
النيجر واحدة من أفقر دول العالم، ولكنها تحتفظ بأهمية استراتيجية كبيرة لأسباب عديدة منها مخزونها الهائل من اليورانيوم (النيجر لديها أحد أكبر احتياطات اليورانيوم عالميا وهي سابع أكبر منتج له) الذي يزود فرنسا بنحو 35% من احتياجاتها من هذه المادة، بالإضافة إلى احتياطيها الكبير من الذهب والنفط والفحم عالي الجودة، وهناك خط أنابيب لنقل الغاز من نيجيريا عبر النيجر والجزائر إلى الدول الأوروبية بتكلفة 13 مليار دولار، وسيمنح دول أوروبا ما يقدر بثلاثين مليار متر مكعب من الغاز، فضلا عن أن النيجر تعد قاعدة للجهود الغربية الخاصة بمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، كما أن المخاوف الغربية المرتبطة بانقلابات أفريقيا قد تزايدت في حالة النيجر التي شهدت انقلابا هو الثالث منذ عام 2020 بعد مالي وبوركينا فاسو.
بلينكن الذي زار النيجر في منتصف مارس الماضي قد أشاد في زيارته بالعلاقات مع هذا البلد الذي يقع في منطقة يتنامى فيها النفوذ الروسي بشكل متسارع، وهو ما دفع الولايات المتحدة لتعزيز دعمها الإنساني لدول تلك المنطقة، ليصل إلى نحو 235 مليون دولار في العام الجاري، إلى جانب جهد آخر بتمويل أمريكي خاص بإعادة تأهيل ودمج مقاتلين سابقين في تنظيمات الإرهاب، حيث كانت واشنطن تأمل أن تتحول تجربة النيجر في هذا الشأن إلى نموذج للدول المجاورة التي تعاني تفشي الإرهاب.
بعد الانحسار المفاجئ للنفوذ الفرنسي في مالي، وفي ظل رغبة الإدارة الأمريكية في كسب المزيد من النفوذ في أفريقيا كأحد جبهات صراع النفوذ مع الصين وروسيا، جاء انقلاب النيجر صادما للغرب، فهي دولة مجاورة لمالي، التي انتقلت من كونها حليف رئيس لفرنسا في مواجهة الإرهاب إلى واحدة من الدول التي تنتشر فيها مجموعة «فاغنر» الروسية، وكانت واحدة من ست دول دعمت روسيا في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن أوكرانيا في فبراير الماضي.
معضلة الغرب في النيجر لا تقف عند حد الانقلاب العسكري، بل ترتبط في الأساس بتوابعه كما حدث في مالي وبوركينا فاسو، حيث أصبحت هاتان الدولتان حليفتين لروسيا، كما ترتبط بجهود مكافحة الإرهاب، حيث أن النيجر هي الحليف الرئيس للجهود العسكرية الفرنسية في غرب أفريقيا، كما قامت الولايات المتحدة أيضا ببناء وتشغيل قاعدة جوية وسط النيجر، وتستخدمها لتسيير طائرات بدون طيار لمهاجمة الجهاديين ومراقبة تحركاتهم.
بلاشك أن ما حدث في النيجر يمثل ضربة قوية للغرب بشكل عام، وفرنسا والولايات المتحدة بشكل خاص، حيث يتنامى الرفض الأفريقي للنفوذ الغربي، فيما تميل التحالفات الأفريقية الجديدة إلى روسيا والصين وهو ما يمثل إنتكاسة لمحاولات الغرب التصدي لنفوذ الدولتين في إطار الصراع الخاص بإعادة تشكيل النظام العالمي في مرحلة مابعد أوكرانيا.
توالي الانقلابات في غرب أفريقيا يمثل أيضا معضلة لرابطة «إيكواس» (المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا)، التي تتكون من 15 دولة، حيث تحاول تبني موقف صارم حيال الانقلاب، ولكنها فشلت حتى الآن في الضغط على القادة الجدد في النيجر رغم التلويح بإمكانية التدخل عسكريا، ورغم صعوبة مسألة التدخل العسكري في النيجر وتداعياتها السلبية المحتملة والشكوك التي تحيط بفرص نجاحها، بجانب احتمالية تعمق العداء لفرنسا والغرب في أفريقيا واتهامهم بمحاولة فرض استعمار جديد على بعض دول القارة، علاوة على أن تهديد القادة الجدد في كل من مالي وبوركينا فاسو بالتدخل لدعم أقرانهم في النيجر ضد أي تدخل عسكري إقليمي أو دولي، واعتبروا أن أي تدخل سيكون «إعلان حرب علينا»، فإن الخيارات الغربية تحديدا قد تنتقل إلى بدائل أخرى مثل عرقلة استقرار نظام الحكم الجديد في النيجر وخلق أزمات داخلية تحول دون استقرار الأوضاع بالشكل الذي يجعلها حليفا جديدا لروسيا في تلك المنطقة، وهو ما يفسر تحليل صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية التي قالت: إن الولايات المتحدة لن تتسامح مع انقلاب النيجر، ولن تكرر تسامحها مع انقلابات سابقة في بعض الدول الأفريقية.
فرنسا ترى في فقدان نفوذها في مستعمرتها السابقة مؤشرا خطيرا على نشاط ظاهرة «الدومينو» فيما يتعلق بانحسار النفوذ والدور الفرنسي أفريقيا ودوليا، ويلفت البعض الانتباه إلى انقلاب النيجر قد وقع بعد أيام قلائل من رفض محمد بازوم المشاركة في القمة الروسية الأفريقية الأخيرة في سان بطرسبرغ، وأن يفغيني بريغوجين رئيس «فاغنر» كان أول المهنئين لقادة الانقلاب في النيجر، وبالتالي فما يحدث في النيجر ليس مجرد انقلاب، بل هو صراع قوي على النفوذ بين الولايات المتحدة وفرنسا من جهة وروسيا ومن بعدها الصين من جهة ثانية.
drsalemalketbi@
شخصيا لا أدري ماذا كان يدور داخل عقل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن وهو يؤكد لرئيس النيجر، المحتجز، على التزام الولايات المتحدة بإعادة الحكومة المنتخبة ديمقراطيا في بلاده إلى السلطة، وهل كان يقصد أن نحو ألف جندي أمريكي يتمركزون في النيجر لغرض مكافحة تنظيمات الإرهاب، يمكن الاعتماد عليهم لإعادة الرئيس بازوم إلى منصبه بالتنسيق مع الدول الإقليمية المعنية؟
النيجر واحدة من أفقر دول العالم، ولكنها تحتفظ بأهمية استراتيجية كبيرة لأسباب عديدة منها مخزونها الهائل من اليورانيوم (النيجر لديها أحد أكبر احتياطات اليورانيوم عالميا وهي سابع أكبر منتج له) الذي يزود فرنسا بنحو 35% من احتياجاتها من هذه المادة، بالإضافة إلى احتياطيها الكبير من الذهب والنفط والفحم عالي الجودة، وهناك خط أنابيب لنقل الغاز من نيجيريا عبر النيجر والجزائر إلى الدول الأوروبية بتكلفة 13 مليار دولار، وسيمنح دول أوروبا ما يقدر بثلاثين مليار متر مكعب من الغاز، فضلا عن أن النيجر تعد قاعدة للجهود الغربية الخاصة بمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، كما أن المخاوف الغربية المرتبطة بانقلابات أفريقيا قد تزايدت في حالة النيجر التي شهدت انقلابا هو الثالث منذ عام 2020 بعد مالي وبوركينا فاسو.
بلينكن الذي زار النيجر في منتصف مارس الماضي قد أشاد في زيارته بالعلاقات مع هذا البلد الذي يقع في منطقة يتنامى فيها النفوذ الروسي بشكل متسارع، وهو ما دفع الولايات المتحدة لتعزيز دعمها الإنساني لدول تلك المنطقة، ليصل إلى نحو 235 مليون دولار في العام الجاري، إلى جانب جهد آخر بتمويل أمريكي خاص بإعادة تأهيل ودمج مقاتلين سابقين في تنظيمات الإرهاب، حيث كانت واشنطن تأمل أن تتحول تجربة النيجر في هذا الشأن إلى نموذج للدول المجاورة التي تعاني تفشي الإرهاب.
بعد الانحسار المفاجئ للنفوذ الفرنسي في مالي، وفي ظل رغبة الإدارة الأمريكية في كسب المزيد من النفوذ في أفريقيا كأحد جبهات صراع النفوذ مع الصين وروسيا، جاء انقلاب النيجر صادما للغرب، فهي دولة مجاورة لمالي، التي انتقلت من كونها حليف رئيس لفرنسا في مواجهة الإرهاب إلى واحدة من الدول التي تنتشر فيها مجموعة «فاغنر» الروسية، وكانت واحدة من ست دول دعمت روسيا في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن أوكرانيا في فبراير الماضي.
معضلة الغرب في النيجر لا تقف عند حد الانقلاب العسكري، بل ترتبط في الأساس بتوابعه كما حدث في مالي وبوركينا فاسو، حيث أصبحت هاتان الدولتان حليفتين لروسيا، كما ترتبط بجهود مكافحة الإرهاب، حيث أن النيجر هي الحليف الرئيس للجهود العسكرية الفرنسية في غرب أفريقيا، كما قامت الولايات المتحدة أيضا ببناء وتشغيل قاعدة جوية وسط النيجر، وتستخدمها لتسيير طائرات بدون طيار لمهاجمة الجهاديين ومراقبة تحركاتهم.
بلاشك أن ما حدث في النيجر يمثل ضربة قوية للغرب بشكل عام، وفرنسا والولايات المتحدة بشكل خاص، حيث يتنامى الرفض الأفريقي للنفوذ الغربي، فيما تميل التحالفات الأفريقية الجديدة إلى روسيا والصين وهو ما يمثل إنتكاسة لمحاولات الغرب التصدي لنفوذ الدولتين في إطار الصراع الخاص بإعادة تشكيل النظام العالمي في مرحلة مابعد أوكرانيا.
توالي الانقلابات في غرب أفريقيا يمثل أيضا معضلة لرابطة «إيكواس» (المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا)، التي تتكون من 15 دولة، حيث تحاول تبني موقف صارم حيال الانقلاب، ولكنها فشلت حتى الآن في الضغط على القادة الجدد في النيجر رغم التلويح بإمكانية التدخل عسكريا، ورغم صعوبة مسألة التدخل العسكري في النيجر وتداعياتها السلبية المحتملة والشكوك التي تحيط بفرص نجاحها، بجانب احتمالية تعمق العداء لفرنسا والغرب في أفريقيا واتهامهم بمحاولة فرض استعمار جديد على بعض دول القارة، علاوة على أن تهديد القادة الجدد في كل من مالي وبوركينا فاسو بالتدخل لدعم أقرانهم في النيجر ضد أي تدخل عسكري إقليمي أو دولي، واعتبروا أن أي تدخل سيكون «إعلان حرب علينا»، فإن الخيارات الغربية تحديدا قد تنتقل إلى بدائل أخرى مثل عرقلة استقرار نظام الحكم الجديد في النيجر وخلق أزمات داخلية تحول دون استقرار الأوضاع بالشكل الذي يجعلها حليفا جديدا لروسيا في تلك المنطقة، وهو ما يفسر تحليل صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية التي قالت: إن الولايات المتحدة لن تتسامح مع انقلاب النيجر، ولن تكرر تسامحها مع انقلابات سابقة في بعض الدول الأفريقية.
فرنسا ترى في فقدان نفوذها في مستعمرتها السابقة مؤشرا خطيرا على نشاط ظاهرة «الدومينو» فيما يتعلق بانحسار النفوذ والدور الفرنسي أفريقيا ودوليا، ويلفت البعض الانتباه إلى انقلاب النيجر قد وقع بعد أيام قلائل من رفض محمد بازوم المشاركة في القمة الروسية الأفريقية الأخيرة في سان بطرسبرغ، وأن يفغيني بريغوجين رئيس «فاغنر» كان أول المهنئين لقادة الانقلاب في النيجر، وبالتالي فما يحدث في النيجر ليس مجرد انقلاب، بل هو صراع قوي على النفوذ بين الولايات المتحدة وفرنسا من جهة وروسيا ومن بعدها الصين من جهة ثانية.
drsalemalketbi@