الرأي

أمي

علي المطوع
ما زالت عقوده الخمسة غير قادرة على إقناع أمه بكماله، فهو في نظرها ما زال ذلك الطفل الصغير الذي تخاف عليه، ما زال في عينيها ذلك الصغير الشقي، الذي صعد خلسة إلى سطح المنزل ليراقب الطائرات، وفجأة تخونه إحدى قدميه ليسقط في هوة بين جدارين، شاءت إرادة الله وحفظه أن تمسكه أسياخ حديدية مثبتة في أحد الجدران، ليصبح كالذبيحة المعلقة بين السماء والأرض، وهو بينها يصيح مذعورا طالبا النجدة، تماسكت أمه وأصرت أن تبقى في حوش الدور السفلي لتحتضنه بصدرها لو سقط، وفي اللحظة ذاتها صرخت طالبة المساعدة من والده ليصعد السلم لينتشل ولدها من ذلك الفخ وذلك الموقف.

عاشت هذه الأم حياتها وهي تدفع كل أذى قد يصيب ولدها، عاشت له أما وأملا ودنيا كبيرة، حتى مع أبنائه مازالت تراهم هو، ومازالت تستذكر كل زلاته وتراها جزءا من تاريخه الذي صاغته بعقلها وقلبها وهي تراقبه وترقبه ليكتمل ويصبح ذلك الرجل الذي مازال صغيرا في عينيها رغم كل تلك السنين وعقودها الخمسة.

كلكم تعرفون شعورنا نحو أمهاتنا وكلكم يعلم قيمة الأم في حياته، فالأم جنة تحت أقدامها، ولسانها الرطب يلهث دائما بالدعاء لأبنائها؛ لأنها الرحمة المنزلة التي توزع رحماتها على أبنائها وبناتها، كلنا نستذكر حديث رسولنا الكريم عندما يوصي ذلك الصحابي الجليل في أمه فيقول له: أمك ثم أمك ثم أمك، ثلاث مرات متتاليات كونها تستحق الأولوية في الحب والعطف وكل صور الامتنان والعطف والتقدير.

أصعب ما يعانيه الإنسان مرض أمه وانكسار عافيتها بعد عقود من تمام تلك العافية، ولأن سيرورة الحياة تقتضي الضعف بعد القوة والمرض بعد الصحة والهرم بعد الشباب، كل تلك الفصول الحياتية تمر على أمهاتنا فنصبح كأولاد وبنات شهودا على هذه التحولات المؤلمة، ويعتصرنا الهم ونحن ننشج بالبكاء طالبين رب السماء أن يخفف ويلطف ويجبر ما انكسر في قلوبنا قبل ما اعترى أجساد أمهاتنا من مرض وتعب ونصب.

الأم ليست مجرد كائن بشري يلد ويربي لتستمر الحياة، هي استثناء في العطف والعاطفة والحب والشعور، كونها وحدة متماسكة لا يجزئها الزمان وعثراته وتقادم أيامه، فهي الصدر الحنون للابن وأبنائه، وهي القلب الذي يسع الجميع بطيبته وكرمه وامتنانه وهي الملاذ الذي نغشاه عندما نطلب الأمان والراحة والاطمئنان.

يقيني بالله أنه الشافي والمعافي ويقيني بألطافه الخفية التي تحيطنا من كل مكان.

يارب شفاء لأمي لا يغادر سقما.