الرأي

أوبنهايمر.. العبقرية بين الإنسانية والمكارثية

عبدالله العولقي
هذه الأيام تشهد صالات عروض السينما حول العالم ازدحاما غير مسبوق لمشاهدة فيلم السيرة الذاتية أوبنهايمر، يؤخذ على الفيلم أنه طويل وحواراته كثيرة لمدة ثلاث ساعات كاملة، ولكن قوة الإخراج الفني ورؤية المخرج في التنقل بين الأحداث وإبداع الممثلين في أداء أدوراهم جعلت الفيلم يتجاوز هذا الأمر نسبيا. تدور أحداث الفيلم حول قصة مخترع القنبلة النووية إبان الحرب العالمية الثانية والتي على إثرها دمرت هيروشيما وناجازاكي في اليابان وانتهت حكاية الحرب الكونية.

يقدم المخرج العالمي كريستوفر نولان رؤيته حول الفيلم بإبداعية مذهلة لمحبي هذه الفئة من السينما، ابتكار فني رائع في استخدام كاميرات التصوير مع توظيف أصوات الانفجارات وضجيج الحرب ودوي المدافع كخلفية صوتية في تصاعد الأحداث لتتكامل بنية التغذية السمعية والبصرية عند المتلقي، نولان يعشق التحدي ولديه الأفق الإبداعي في تقديم رؤيته السينمائية، حيث أجاد استعمال منهجية الفلاش باك بمشاهد تم تدجينها بالأبيض والأسود كتوظيف فريد ضمن سياقات الفيلم.

تاريخيا، بعد نجاح الولايات المتحدة في إنهاء الحرب، أصبح أوبنهايمر رجل الإعلام الأول عالميا، حيث تصدرت صوره الصحف والمجلات وتحولت شخصيته إلى أيقونة العلم حول العالم، لكن آثار القنبلتين وصور الحرب وما خلفته من أمراض وتشوهات جسيمة بدأت تلاحق ذهن العالم الأمريكي بصورة مزعجة، وقد قرأ المخرج كريستوفر نولان هذه الحالة جيدا وفهم مدى المعاناة النفسية التي أثقلت كاهل أوبنهايمر بعد أن رأى نتائج اختراعه المدمر وبالتالي فالفيلم عبارة عن ترجمة سينمائية لمعاناة هذا العالم الكبير وتأنيبه لنفسه.

الفيلم تعرض لحالة المكارثية الشهيرة التي اجتاحت الولايات المتحدة بعد الحرب، وهي ظاهرة تنسب للسياسي الأمريكي اليميني جوزيف مكارثي، عندما شرع حينها ببث خطاب التخوين في أروقة السياسة والإعلام الأمريكية لكل من لديه ميول يسارية، نجح مكارثي في استقطاب غوغاء الإعلام لصالحه، فعقدت محاكمات ضد عشرات من رجالات العلم والفكر والصحافة وكان من بينهم أوبنهايمر، عرفت هذه الحملة الهوجاء تاريخيا بالمكارثية ولا زال هذا المفهوم يستعمل حتى اليوم في سياق الحالات المماثلة، ظلت جلسات محاكمة أوبنهايمر مستمرة لمدة خمس سنوات تقريبا، إلى أن بدأت المكارثية تفقد مصداقيتها في المجتمع الأمريكي وبدأ الوعي يعود إلى مكانته الطبيعية فبدأت الأصوات تتصاعد ضد مكارثي ومجموعته إلى أن تم إلغاء المحاكمات وتمت تبرئة العالم أوبنهايمر.

أدى الممثل كيليان ميرڤي دور أوبنهايمر ببراعة شديدة، حيث تقمص الشخصية بدرجة كبيرة وكان له دور بارز في نجاح الفيلم، نظراته المتفائلة كانت انعكاسا لما يحمله أوبنهايمر من تحديات وأمل قبل اختراع القنبلة وكيف تحولت هذه النظرات إلى مشاهد يأس واكتئاب بعد أن وقع تحت مؤثرات تأنيب الضمير، الفيلم مشوق لهواة التاريخ والسير الذاتية وعشاق نظريات الفيزياء والعلم، وممل جدا لهواة الأكشن والرومانسية، ولهذا تباينت آراء الجمهور وتضاربت أحاديثهم حول تقييم الفيلم كعادة الأفلام التي تصاحبها ضجة إعلامية.

في محاضرة شهيرة للمفكر عبدالوهاب المسيري -رحمه الله-، ذكر أنه ذهب لزيارة أوبنهايمر في منزله، وسأله عن شعوره النفسي بعد أن توصل إلى اختراع القنبلة الذرية، فأجاب أوبنهايمر بأنه تقيأ حينها، في إشارة إلى إدراكه الذاتي بخطورة اكتشافه على مستقبل الإنسانية، ويستشهد المسيري حول هذا الفكرة بقول الفيلسوف الفرنسي فرانسوا رابليه: «إذا لم يقترن العلم بالضمير أدى إلى خراب النفس!!».

خاتمة القول.. لا شك أن أفلام ومنتجات هوليود هي إحدى أدوات القوة الناعمة لدى الولايات المتحدة، وفي هذه الأيام يتجدد حديث اندلاع حرب كونية ثالثة في وسائل الإعلام العالمية بسبب توتر الأزمات بين الأقطاب الكبار، وقد يمثل هذا الفيلم رسالة تذكيرية عن أهوال الأسلحة المدمرة ومدى تحطيمها لقيمة الإنسان!!

albakry1814@