الرأي

الأكفان بلا جيوب

عبدالله سعود العريفي
وجهت لي ذات يوم دعوة باتصال هاتفي مع إلحاح بالحضور إلى مأدبة غداء؛ فوجدت الداعي صاحب نفس طيبة وطلاقة وجه تبشر بالخير وبشاشة تتوزع على جميع الحاضرين، كبيرهم وصغيرهم، مع جود كبير وكرم واسع وحفاوة بالغة مع أنه يصنف من قبل من يعرفه بأنه رجل فقير وإنسان على قد حاله، وفي يوم آخر وجهت لي دعوة أخرى عن طريق رسالة معاد توجيهها مرات عديدة عبر الجوال بالحضور إلى مأدبة عشاء؛ فوجدت الداعي كلوح الوجه مكشرا، تجهمه وعبوسه يزعجان المدعوين، وكانت تظهر عليه مظاهر الشح والبخل والتقتير، وكان يتحجج أمام الحاضرين بالأعذار والتعاليل والتبريرات مع أنه يصنف من قبل من يتعامل معه بأنه رجل ثري، وكان مملا مضجرا ثقيل الظل وغير مريح، وجهه متصلب لا يبش بنظرة ولا يلين بابتسامة وإن ابتسم؛ فابتسامته صفراء تعبر عن المراوغة وإخفاء المكر وكأنه يحس بالرعب والفزع ويشعر بنوع من الاضطراب وكأنه يتوقع مكروها أو يخاف على شفتيه أن تتثلم وعلى وجهه أن يتهدم، ويشعر من حوله وكأنه يبحث عن شيء مفقود دون أن يدرك ولو للحظة واحدة أنه يمتلك كل شيء.

في الحقيقة إن الكرم والبخل ليس لهما علاقة بكون الإنسان غنيا أو فقيرا، بل لهما علاقة بنفس الإنسان ونظرته للمال؛ فهناك من بني البشر من لا يدرك أن العلاقة مع المال تكون على أنه وسيلة الحياة وليس غايتها؛ فيعمل على جمعه وتكديسه وجعل بعضه فوق بعض دون أن يدرك أن قوة الإنسان وأهميته بما في قلبه لا بما في جيبه وأن كل ما قام بجمعه سيأتي يوم ويتخلى عنه ويتركه خلفه ويمضي وأن الثري والفقير لجثتيهما ذات رائحة العفن، ومع ذلك ينسى أو يتناسى حقيقة أن الإنسان يعيش حياته الدنيا لمرة واحدة فقط؛ فلا يحس بطعم السعادة بسبب عدم استفادته من ذلك المال؛ لأنه في نهم وطمع ولا تهمه حاجة المحتاجين.

وقد كان العرب يتقصدون المبالغة في مدح الكريم وذم البخيل؛ لأن البخل سلوك إنساني غير مقبول يخالف ويعارض أصل وجود الإنسان في مجتمعات تكافلية يشعر كل فرد فيها أن عليه واجبات للآخرين وذلك بإيصال المنافع إليهم ودفع الأضرار عنهم؛ فيؤدي ذلك إلى عمارة الأرض وإصلاحها وإحيائها وإشاعة الحياة والنماء فيها من خلال قيم المساعدة والدعم والمساندة.

لا شك أن البخل والشح والتقتير وإمساك المال والامتناع عن بذله يؤدي إلى التباعد والتقاطع والتهاجر الذي يورث الكره والخصام والتنازع وتباعد القلوب، ومن أسوأ أنواع البخلاء ومن أردى أصناف الأشحاء ومن أقبح فئات المقترين أولئك الذين لا يقف بخلهم عند أنفسهم ولا ينحصر شحهم على ذواتهم ولا يقتصر تقتيرهم على أشخاصهم بل يتعدى ذلك ليكونوا دعاة للشح ومنادين إلى البخل ومرغبين في التقتير سعيا منهم أن يكون غيرهم من البخلاء الممسكين عن البذل والأشحاء القابضين عن العطاء والمقترين المحجمين عن السخاء؛ فهم قد كرهوا الجود وأبغضوا البذل ومقتوا العطاء حتى صار عندهم نفور واشمئزاز منه؛ فصاروا لا يحبون أن يجاد ولا يودون أن يبذل ولا يرغبون أن يعطى ويعملون على التظاهر بالحاجة والعوز وضيق الحال وتراكم الديون مع الغنى وسعة العيش ورخائه، وينسون أو يتناسون أن الأكفان بلا جيوب.