الرأي

أصحاب المعالي والسعادة: الإنسان أولا!

فهد إبراهيم المقحم
في هدوء يحاول الأب أن يستمتع بوقته في قراءة صحيفته اليومية، لكن طفله الصغير كان له رأي آخر، إذ ظل يقاطعه حتى يلتفت الأب إليه، وحين سئم الأب من ذلك، قام بتمزيق صفحة من صفحات الصحيفة رسمت عليها خريطة العالم إلى قطع صغيرة، ثم طلب من ابنه أن يعيد تجميعها، وما ذاك إلا أن يشغله فيتخلص الأب من مضايقته، وما هي إلا دقائق حتى عاد الابن إليه وفي يده الخريطة مرتبة وكاملة!

سأله الأب في دهشة: هل كانت والدتك تعطيك دروسا في الجغرافيا؟ أجاب الطفل بالنفي، وأضاف في استنكار: وماذا تعني الجغرافيا؟! ثم أردف الابن قائلا: لقد كانت هناك صورة لرجل على الوجه الآخر من الصفحة، وحين أعدت ترتيب صورته، أعدت بناء العالم من جديد!

هذه القصة القصيرة التي أوردها الكاتب البرازيلي باولو كويلو في كتابه (Like the Flowing River: Thoughts and Reflections)، تبين أن الاهتمام ببناء الإنسان وتمكينه يأتي في مقدمة بناء وتطوير المنظمات والحضارات، إذ النجاحات تبنى - بعد توفيق الله - على سواعد أبنائها المخلصين!.

حين خلق الله ـ عز وجل ـ الإنسان لعبادته، سخر له الكون ومنافعه لتمكينه من تحقيق الهدف الذي خلق من أجله.

قال تعالى: (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون). وقال تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). وحين قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، لمد يد العون إلى المهاجرين، لتمكينهم وتعزيز العلاقة بين العاملين، لتحقيق أهدافهم وما يراد منهم.

وهكذا توالت القيادات الناجحة عبر التاريخ في الاهتمام والعناية ببناء الإنسان، وتمكينه وتحفيزه نحو تحقيق الأهداف المرجوة منه، وهو ما أكده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء - حفظه الله - في مناسبات متفرقة بقوله: كل عناصر النجاح موجودة لخلق شيء عظيم، وأهم عنصر لدينا هو الشعب السعودي.

هذا التأكيد ظهر واضحا وجليا في رؤية المملكة ومبادراتها الطموحة، كان آخرها مشروع «حي الملك سلمان»، ليكون أنموذجا في الأنسنة ورفع جودة الحياة.

الأمر بالطبع لا ينحصر على المجتمعات، بل يتأصل في نجاح المنظمات والمؤسسات. وقد ذكرت في مقال سابق بعنوان (قائد بالغترة!)، أن القائد يحتاج في عمله إلى أن يلعب ثلاثة أدوار رئيسة: موجّه، ومعماري، ومحفّز. وجل أعمال هذه الأدوار تتمحور حول بناء الإنسان وتمكينه وتحفيزه للعمل الدؤوب نحو تحقيق رؤية وأهداف المنظمة.

بناء الإنسان يأتي خلال تطوير قدراته ومهاراته للقيام بواجباته وتجويد مخرجاته. فقد أشارت جمعية إدارة الموارد البشرية (SHRM) في تقريرها (2022 Workplace Learning & Development Trends)، إلى أن تطوير الموظفين يسهم في أمرين رئيسين:

1 - تحقيق أهداف المنظمة خلال إكساب العاملين المهارات اللازمة، سواء للقيام بمهامهم الحالية أو الجديدة (Upskilling or Reskilling).

2 - جذب 83% من الكفاءات الجديدة، واستبقاء 86% من الكفاءات الحالية في المنظمة.

وتخطئ بعض المنظمات حين تحصر التطوير خلال التدريب المباشر، سواء كان حضوريا أو عن بعد. فالتطوير له أشكال متفرقة، إذ أظهرت دراسات جمعية إدارة الموارد البشرية (SHRM) إلى أن أكثر الطرق الفاعلة في تطوير الموظفين وتهيئتهم لمهامهم الجديدة هي: التدريب على رأس العمل، والتوجيه أو الإرشاد الفردي، والظل الوظيفي.

أما تمكين الإنسان، فيأتي خلال التفويض والدعم والتواصل الفعال بين القادة وموظفيهم، لتسليط الضوء على الاتجاه الاستراتيجي المحدث، والتأكيد المستمر على مسار المنظمة وأولوياتها وأبرز مستجداتها، ومناقشة ما يواجهون من صعوبات وتحديات، في حين أن ضعف التواصل بين القادة والعاملين يؤدي إلى تدني دافعيتهم وتخبطهم، ثم الإخفاق في تحقيق أهدافهم، وفقا لأبحاث نشرتها (The Economist Intelligence Unit) في 2018.

أما التحفيز وإثارة الشغف لدى الموظفين، فهو الوقود الذي ينمي المسؤولية والإحسان والتفاني في أداء واجباتهم، بل ويستحث الإبداع في تطوير أعمالهم، فضلا عن استبقائهم وتعزيز الولاء لمنظماتهم، وهذا التحفيز يمكن أن يتحقق خلال وسائل متفرقة، منها: تعزيز

التواصل والشفافية، إذ أظهرت دراسة نشرتها (Porter Novelli) في 2020 إلى أن 90% من الموظفين الذين يدركون أهداف المنظمة والأثر الإيجابي للأعمال التي يقومون بها، يكونون أكثر إلهاما وحافزية وولاء.

ووفقا لأبحاث حديثة أشارت إليها مجلة فوربس، وجد أن 80% من الموظفين يؤكدون أهمية معرفة حيثيات التوجهات والقرارات التي تتخذها منظماتهم، وأن 87% من الباحثين عن العمل يعدون الشفافية معيارا مهما وجاذبا للالتحاق بالوظائف الجديدة؛ إذ تسهم الشفافية والمشاركة في صناعة الخطط والقرارات في تعزيز الدافعية، والتعاون المثمر في تحقيق المستهدفات، والتخفيف من الضغوطات والصراعات، مما يعزز الإنتاجية ويرفع من جودة المخرجات.

ومما يسهم في تحفيز العاملين، تعزيز التنافسية المحمودة، والاحتفاء بإنجازاتهم، وإرساء العدل في تقديرهم ومكافآتهم، إذ أظهرت دراسة شملت نحو 200 ألف مدير وموظف قامت بها (O.C. Tanner)، وهي شركة عالمية متخصصة في تحفيز الموظفين، أن 79% من الموظفين المستقيلين تركوا أعمالهم لشعورهم بعدم التقدير والامتنان عن أعمالهم وإنجازاتهم.

ومما يعزز الانتماء والحافزية لدى العاملين، تحسين بيئة العمل التي يقضون فيها ساعات طوال، وتعزيز العلاقة بالموظفين وأسرهم، ومن النماذج المميزة في هذا الجانب ما تقوم به مجموعة أمات العربية، وهي مجموعة سعودية رائدة في صناعة الدواجن، من ممارسات نوعية تحت شعار «الإدارة بالحب». من هذه الممارسات: إعداد تقرير يومي عن المناسبات السعيدة أو الحزينة الخاصة بالموظفين، يعرض على رئيس مجلس الإدارة كل صباح بهدف الاتصال بهم، لتهنئتهم وتكريمهم أو مواساتهم وتعزيتهم.

ومن الأمثلة أيضا: تلمس احتياجاتهم واحتياجات أسرهم، ودعمهم ماديا أو معنويا بالاتصال أو الزيارة. ومن الممارسات كذلك: تعزيز العلاقة مع أسر العاملين خلال إشراك الزوجة أو الزوج في المكافآت السنوية واللقاءات الاجتماعية.

فيا أصحاب المعالي والسعادة، إن أردتم لخططتكم المتميزة أن تنجح، ورؤيتكم الطموحة أن تتحقق، استوصوا بالإنسان خيرا. اهتموا ببنائه، وأحسنوا التواصل معه، وبثوا في روحه الثقة والعزيمة، وعززوا من انتمائه بتلمس احتياجاته وإنسانيته. كونوا له سندا وأخا، يكن لكم يدا يمنى في تحقيق أهدافكم وطموحاتكم.

@moqhim