زيارة بلينكن ومسار العلاقات السعودية - الأمريكية
الأربعاء / 18 / ذو القعدة / 1444 هـ - 20:31 - الأربعاء 7 يونيو 2023 20:31
توجه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أمس الأول إلى المملكة العربية السعودية، في زيارة تجذب اهتمام المراقبين في ضوء التوترات التي طغت في الفترة الأخيرة على علاقات البلدين الحليفين. ونقلت التقارير الإعلامية عن دبلوماسي أمريكي رفيع قوله: «إن هناك عملا كثيرا نريد الانتهاء منه، تركيزنا ينصب على برنامج عمل للدفع بالأمور قدما»، ويقصد هنا - على الأرجح - أن هناك برنامج عمل أمريكي للحفاظ على زخم العلاقات مع المملكة، رغم الاختلافات القائمة في الأهداف والمصالح الاستراتيجية بين البلدين الحليفين.
الشواهد تقول إن خطوط الاتصال بين الرياض وواشنطن لم تنقطع في أي مرحلة من المراحل الماضية التي شهدت خلافات صامتة أو معلنة بين الطرفين، وإن هناك تعاونا مستمرا في المجالات كافة، ولا سيما العسكري والأمني والسياسي، وأحدث حلقات هذا التعاون تتمثل في وساطة البلدين بين طرفي النزاع في السودان، خلال محادثات عقدت مؤخرا في جدة.
الولايات المتحدة من جانبها تتمسك بصيغة التعاون الاستراتيجي القائم مع المملكة العربية السعودية، إذ يتشارك الجانبان في ملفات وقضايا عدة، أهمها مكافحة الإرهاب الدولي، وهي المهمة التي لا تزال تمثل تحديا لنحو 80 دولة شكلت فيما بينها عام 2014 تحالفا دوليا لمكافحة الإرهاب، حيث انتقلت تنظيمات الإرهاب من العراق وسوريا إلى أفريقيا، حيث تنتشر المناطق الرمادية التي تعاني غيابا للدولة الوطنية، فضلا عن بقية الظروف التي تسهم في تفشي الإرهاب وتمدده إقليميا.
ولعل الاجتماع الذي تستضيفه المملكة للدول الأعضاء في التحالف الدولي لمكافحة تنظيم «داعش»، يمثل إحياء جديدا للتحالف ويبعث برسالة قوية على أن الإرهاب لم يزل أولوية ضمن أولويات هذه الدول، وسط انشغالات العالم أجمع بالأزمات والكوارث، وفي مقدمتها الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
بلا شك، إنه من المهم ألا تفقد القوى الإقليمية والدولية المؤثرة، كالمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، بوصلة الاهتمام بأولويات استراتيجية كمكافحة الإرهاب والتصدي له، وألا يؤثر التباين في وجهات نظرها حيال قضايا أخرى على مثل هذه الأولويات، وهذا يحسب للدبلوماسية السعودية التي تحرص على بناء التوازنات، والإبقاء على الاهتمام والأولويات في هذه المرحلة الحيوية من العلاقات الدولية.
بلا شك أيضا، أن استمرار الحوار السعودي - الأمريكي، واستقبال المملكة مسؤولين أمريكيين اثنين خلال أقل من شهر (استقبلت المملكة قبل أسابيع قلائل مستشار الأمن القومي الأمريكي جايك ساليفان)، يعني حرص الرياض على الاضطلاع بواجباتها ومسؤولياتها الإقليمية والدولية المترتبة على مكانتها وثقلها الاستراتيجي، اقتصاديا وسياسيا وروحيا، والإصرار على ترسيخ قواعد جديدة لإدارة علاقاتها مع القوى الدولية الكبرى، خلال سياسة خارجية قائمة على التنوع والتعددية والندية، والبقاء على مسافة واحدة من الجميع، بما يضمن للمملكة الحفاظ على مصالحها والبقاء بمنأى عن التحالفات والمحاور الأحادية.
الواضح أيضا، أن واشنطن تعمل في إطار ما وصفه الرئيس جو بايدن في نهاية العام الماضي بـ»إعادة ضبط» العلاقات مع المملكة العربية السعودية، عقب قرار الأخيرة خفض إنتاج النفط التزاما بقرار «أوبك+»، وهو توجه ليس بالضرورة سلبيا كما اعتقد الكثيرون. فالولايات المتحدة تدرك جيدا مدى أهمية المملكة بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، كما تدرك كذلك عواقب التخلي عن شراكتها الاستراتيجية وتحالفها التقليدي التاريخي مع المملكة، ولا سيما في إطار التنافس الاستراتيجي المحتدم مع الصين وروسيا وغيرهما، على الهيمنة والنفوذ في نظام ما بعد أوكرانيا، فضلا عن أن «الرسائل» غير المباشرة التي بعثت بها الرياض قد استقرت في عنوانها المنشود في دوائر صنع القرار بواشنطن، وأدرك الجميع أن قواعد اللعبة قد تغيرت، وأن السياسة الخارجية السعودية تتغير، وأن على الدبلوماسية الأمريكية مواكبة هذا التغير بما يحفظ للولايات المتحدة مصالحها، بعيدا عن أي صدام مع أحد أبرز الحلفاء التاريخيين في الشرق الأوسط.
بموضوعية نقول، إن الدبلوماسية السعودية قد نجحت في الإمساك بزمام المبادرة، والتحرك وفقا لمصالحها في هذه المرحلة، وحظيت بالتقدير والاحترام، وتخلصت بهدوء ـ وبشكل تدريجي مدروس ـ من الأطر والقواعد القديمة الحاكمة لعلاقاتها التقليدية مع الحليف الأمريكي، لتدخل في مرحلة نوعية جديدة ستكون لها قواعد وأطر جديدة، وهو ما تجسد بشكل جلي في تصريحات المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي، والتي قال فيها: «نحن نركز على المستقبل... إنها شراكة استراتيجية مهمة».
مضيفا «هذا لا يعني أننا نتفق دائما مع السعوديين في كل شيء، أو أنهم يتفقون معنا في كل شيء. لدينا بالتأكيد خلافات في الرأي»، وهذا الاعتراف المهم بأن العلاقات بين الحليفين التقليديين تستوعب الخلاف، وتحتمل تباين وجهات النظر، هو تطور نوعي كبير في إدارة العلاقات السعودية - الأمريكية.
الولايات المتحدة تدرك تماما أن نظاما عالميا جديدا يتشكل، وأن مناطق النفوذ الحيوية كالخليج العربي، وما تردد خلال سنوات فائتة بشأن تراجع أهمية الوقود الأحفوري وغير ذلك، قد دحضته الأحداث المتسارعة.
وترى كيف أن منافسيها الاستراتيجيين يتمددون في كل مساحة ينحسر فيها النفوذ الأمريكي، وبالتالي نرى تصميما أمريكيا على ترميم علاقاتها مع الحليف الاستراتيجي السعودي، وقبول فكرة الاستمرار في إطار التنوع، وهي في مجملها شواهد تعكس نجاح وفاعلية الدبلوماسية السعودية، التي تمضي بخطى هادئة في ترسيخ نفوذها ودورها ومكانتها إقليميا ودوليا.
drsalemalketbi@
الشواهد تقول إن خطوط الاتصال بين الرياض وواشنطن لم تنقطع في أي مرحلة من المراحل الماضية التي شهدت خلافات صامتة أو معلنة بين الطرفين، وإن هناك تعاونا مستمرا في المجالات كافة، ولا سيما العسكري والأمني والسياسي، وأحدث حلقات هذا التعاون تتمثل في وساطة البلدين بين طرفي النزاع في السودان، خلال محادثات عقدت مؤخرا في جدة.
الولايات المتحدة من جانبها تتمسك بصيغة التعاون الاستراتيجي القائم مع المملكة العربية السعودية، إذ يتشارك الجانبان في ملفات وقضايا عدة، أهمها مكافحة الإرهاب الدولي، وهي المهمة التي لا تزال تمثل تحديا لنحو 80 دولة شكلت فيما بينها عام 2014 تحالفا دوليا لمكافحة الإرهاب، حيث انتقلت تنظيمات الإرهاب من العراق وسوريا إلى أفريقيا، حيث تنتشر المناطق الرمادية التي تعاني غيابا للدولة الوطنية، فضلا عن بقية الظروف التي تسهم في تفشي الإرهاب وتمدده إقليميا.
ولعل الاجتماع الذي تستضيفه المملكة للدول الأعضاء في التحالف الدولي لمكافحة تنظيم «داعش»، يمثل إحياء جديدا للتحالف ويبعث برسالة قوية على أن الإرهاب لم يزل أولوية ضمن أولويات هذه الدول، وسط انشغالات العالم أجمع بالأزمات والكوارث، وفي مقدمتها الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
بلا شك، إنه من المهم ألا تفقد القوى الإقليمية والدولية المؤثرة، كالمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، بوصلة الاهتمام بأولويات استراتيجية كمكافحة الإرهاب والتصدي له، وألا يؤثر التباين في وجهات نظرها حيال قضايا أخرى على مثل هذه الأولويات، وهذا يحسب للدبلوماسية السعودية التي تحرص على بناء التوازنات، والإبقاء على الاهتمام والأولويات في هذه المرحلة الحيوية من العلاقات الدولية.
بلا شك أيضا، أن استمرار الحوار السعودي - الأمريكي، واستقبال المملكة مسؤولين أمريكيين اثنين خلال أقل من شهر (استقبلت المملكة قبل أسابيع قلائل مستشار الأمن القومي الأمريكي جايك ساليفان)، يعني حرص الرياض على الاضطلاع بواجباتها ومسؤولياتها الإقليمية والدولية المترتبة على مكانتها وثقلها الاستراتيجي، اقتصاديا وسياسيا وروحيا، والإصرار على ترسيخ قواعد جديدة لإدارة علاقاتها مع القوى الدولية الكبرى، خلال سياسة خارجية قائمة على التنوع والتعددية والندية، والبقاء على مسافة واحدة من الجميع، بما يضمن للمملكة الحفاظ على مصالحها والبقاء بمنأى عن التحالفات والمحاور الأحادية.
الواضح أيضا، أن واشنطن تعمل في إطار ما وصفه الرئيس جو بايدن في نهاية العام الماضي بـ»إعادة ضبط» العلاقات مع المملكة العربية السعودية، عقب قرار الأخيرة خفض إنتاج النفط التزاما بقرار «أوبك+»، وهو توجه ليس بالضرورة سلبيا كما اعتقد الكثيرون. فالولايات المتحدة تدرك جيدا مدى أهمية المملكة بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، كما تدرك كذلك عواقب التخلي عن شراكتها الاستراتيجية وتحالفها التقليدي التاريخي مع المملكة، ولا سيما في إطار التنافس الاستراتيجي المحتدم مع الصين وروسيا وغيرهما، على الهيمنة والنفوذ في نظام ما بعد أوكرانيا، فضلا عن أن «الرسائل» غير المباشرة التي بعثت بها الرياض قد استقرت في عنوانها المنشود في دوائر صنع القرار بواشنطن، وأدرك الجميع أن قواعد اللعبة قد تغيرت، وأن السياسة الخارجية السعودية تتغير، وأن على الدبلوماسية الأمريكية مواكبة هذا التغير بما يحفظ للولايات المتحدة مصالحها، بعيدا عن أي صدام مع أحد أبرز الحلفاء التاريخيين في الشرق الأوسط.
بموضوعية نقول، إن الدبلوماسية السعودية قد نجحت في الإمساك بزمام المبادرة، والتحرك وفقا لمصالحها في هذه المرحلة، وحظيت بالتقدير والاحترام، وتخلصت بهدوء ـ وبشكل تدريجي مدروس ـ من الأطر والقواعد القديمة الحاكمة لعلاقاتها التقليدية مع الحليف الأمريكي، لتدخل في مرحلة نوعية جديدة ستكون لها قواعد وأطر جديدة، وهو ما تجسد بشكل جلي في تصريحات المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي، والتي قال فيها: «نحن نركز على المستقبل... إنها شراكة استراتيجية مهمة».
مضيفا «هذا لا يعني أننا نتفق دائما مع السعوديين في كل شيء، أو أنهم يتفقون معنا في كل شيء. لدينا بالتأكيد خلافات في الرأي»، وهذا الاعتراف المهم بأن العلاقات بين الحليفين التقليديين تستوعب الخلاف، وتحتمل تباين وجهات النظر، هو تطور نوعي كبير في إدارة العلاقات السعودية - الأمريكية.
الولايات المتحدة تدرك تماما أن نظاما عالميا جديدا يتشكل، وأن مناطق النفوذ الحيوية كالخليج العربي، وما تردد خلال سنوات فائتة بشأن تراجع أهمية الوقود الأحفوري وغير ذلك، قد دحضته الأحداث المتسارعة.
وترى كيف أن منافسيها الاستراتيجيين يتمددون في كل مساحة ينحسر فيها النفوذ الأمريكي، وبالتالي نرى تصميما أمريكيا على ترميم علاقاتها مع الحليف الاستراتيجي السعودي، وقبول فكرة الاستمرار في إطار التنوع، وهي في مجملها شواهد تعكس نجاح وفاعلية الدبلوماسية السعودية، التي تمضي بخطى هادئة في ترسيخ نفوذها ودورها ومكانتها إقليميا ودوليا.
drsalemalketbi@