الرأي

النرجسية الفرنسية.. والجنون النفعي

يوسف الحمادي
وثق التاريخ السياسي في العالم الكثير من جرائم البغاة والطغاة، الذين لطخوا أسماءهم وأسماء دولهم بدماء الأبرياء، وتسببوا في دمار المجتمعات، وشكلوا بعملياتهم الإجرامية أبشع صور التعذيب والتنكيل، بين قتل جماعي، وممارسة لأقبح أنوع الأذى الجسدي والنفسي، ونقل وتهجير الأسر والأطفال قسرا، في ظروف ينعدم بها الأمن والغذاء، دون أدنى حس من الإنسانية.

كل ذلك، بقصد الإبادة الكلية أو الجزئية، لأفراد مجتمع ما، بدوافع استعمارية وقومية وعرقية ودينية، حتى أصبحت تلك الممارسات آثارا لجراحات دامية على صدر الكرة الأرضية، يصعب تجاوزها بسهولة.

وعند الحديث عن الجرائم السياسية وحروب الإبادة الجماعية، لابد أن يتداعى إلى أذهاننا أسماء دول كبرى وصلت مستعمراتها مشارق الأرض ومغاربها، وتأذى من سياساتها آن ذاك الإنسان والشجر والحجر.

وهنا لنا وقفة مع النرجسية الفرنسية، التي أثارت الغرابة في تفتيشها لأوراق الماضي بهدف إدانة دولة بعد أن أصبحت اليوم خصما لها، وهي أي -فرنسا- من تلطخت أوراقها بدماء الأبرياء في أفريقيا، وكأنها في بحثها عن جرائم الدول الأخرى تناست أو تجاهلت صفحتها المتخمة بجرائم الحروب، التي لم تعتذر عنها على أقل تقدير.

إن إقرار مجلس الشيوخ الفرنسي قبل أسبوع باعتبار المجاعة التي تسببت بها السلطات السوفيتية في أوكرانيا في ثلاثينيات القرن الماضي وأدت إلى موت الملايين «إبادة جماعية»، يفتح أمامنا اليوم ملفات دول عدة، وجرائم ارتكبت في الماضيين البعيد والقريب.

والتساؤل المشروع الذي يتبادر إلى ذهن أي متابع، وليس بالضرورة أن يكون سياسيا، أليس من باب أولى أن يخرج مجلس الشيوخ الفرنسي، بنص يدين الجرائم التي ارتكبها الجيش الأمريكي في العراق. أليس سجن أبو غريب يعد معقل أبشع الجرائم التي تنتهك حقوق الإنسان، أليست الانتهاكات المتكررة للشعب الأفغاني بعد أن تم احتلال البلاد بالقوة العسكرية الأمريكية، وتشريد ملايين البشر، أجدر بالإدانة تلك، وذلك من باب الإنصاف والخروج بمظهر يحفظ أدنى حد من ماء وجه فرنسا، التي صوبت سهامها على أساس حسابات سياسية مع قيصر روسيا!

وهذا يقودنا للعودة إلى تاريخ فرنسا في القارة الأفريقية، منذ بدأت عمليات الاستعمار في العام 1524م، وفرضت السيطرة على أكثر من عشرين دولة، واستمرت في القارة لمدة 300 عام، واستخدمت عددا من الدول لسنوات طويلة مركزا لتجارة «العبيد»، كما نهبت كافة موارد المنطقة، وقابلت الثورات التحررية بالعنف المفرط والقتال، التي راح ضحيتها أكثر من مليوني أفريقي، ولم نسمع حتى اليوم أي تعويضات قدمتها فرنسا بما يشفع لتاريخها الجائر بحق الإنسانية.

وحتما لا يمكن نسيان جرائم فرنسا في الجزائر، إذ إنها سجلت أبشع استعمار عرفه التاريخ بين عامي 1830 و1962م، وتسبب في عمليات إبادة جماعية ضد القبائل والعشائر راح ضحيتها نحو مليون قتيل، دون تمييز بين صغير وكبير، فضلا عن عمليات النهب والسلب وتطبيق سياسة الأرض المحروقة.

واستمرارا لهذا النهج الفرنسي، عانت تونس كذلك مما جرى في عام 1952م، عندما رفضت فرنسا منح الاستقلال وتعسفت بربط أبدي بين الدولتين، وأرسلت «جون دي هوتكلوك» بقصد إرهاب وإخضاع التونسيين، لتندلع بذلك المقاومة المسلحة، ويتبعها عامي 1956م و1961م سقوط آلاف القتلى أغلبهم من المدنيين التونسيين.

ولم تكتف فرنسا بجرائمها في مستعمراتها السابقة، إنما امتد الأمر إلى الدول التي تتمتع فيها بنفوذ سياسي، حيث قامت بأحد أكبر حروب الإبادة الجماعية في التاريخ، وذلك في رواندا حيث قتل 800 ألف شخص عام 1994م. ووفقا لتقرير صادر عن هيئة الأبحاث الرواندية عام 2008، فإن فرنسا كانت على علم مسبق بالمجازر التي ستقع في البلاد، وأنها قدمت الأسلحة والمعلومات المخابراتية للمتطرفين في هذا الإطار.

إن النرجسية السياسية الفرنسية، بمزاجها المتعالي على الإنسانية، تسير وفق معايير خاصة لا أحد يعرفها في تصنيف حروب الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، فهي من جانب تدين الجرائم ضد أصدقائها وحلفائها، مثل الاعتراف بإبادة الهولوكوست والمجاعة التي تسبب بها السوفييت في أوكرانيا والإبادة التركية للأرمن، وتغض النظر عن جرائمها وجرائم حلفائها. إن ذلك بلا شك جنون نفعي يعكس أسلوب سياسي مؤذي، يجعل من حياة البشر وتاريخ البشرية رهينة لتصفية حسابات سياسية، تعود لها فرنسا متى ما تشاء.

binmautaib@