الرأي

«محادثات جدة» تتقدم نحو سيادة السودان

يوسف الحمادي
منذ نحو شهر يعيش السودان في ظلام يزداد يوما بعد آخر، وتغطي سماءه أدخنة المدافع التي تحجب ضوء الشمس، وتزيد معاناة من تقطعت بهم السبل، بسبب القنابل التي فتكت بالبنية التحتية التي بالكاد تخدم أهلها، في مشهد لا يدعو للتفاؤل، على الرغم من تعالي أصوات المنظمات العالمية والدول الكبرى، التي تحذر من كارثة ستلحق بالسودانيين لا محالة، حتى جاءت التباشير من أرض المملكة العربية السعودية بإعلان «محادثات جدة» عن توقيع طرفي النزاع وهما القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، على التزام الجانبين بتسهيل العمل الإنساني لتلبية احتياجات المدنيين، وتمكين إيصال المساعدات الإنسانية وانسحاب القوات من المستشفيات والسماح بدفن الموتى باحترام.

بالنظر إلى الإعلان، فإن الاتفاق الأول من شأنه حماية الإنسان وتوفير احتياجاته لتفادي ما يمكن تفاديه من الأضرار المباشرة لهذه الحرب، ويدعو في الوقت نفسه الجميع لإعادة النظر برؤية عميقة ومن منظور المصلحة العامة للدولة والإنسان السوداني. وهو ما أعتبره خطوة مهمة في هذا الصراع المعقد من نوعه، تدفع بمزيد من التفاؤل في توصل «محادثات جدة» بإذن الله إلى اتفاقات أخرى تجعل سيادة السودان وأمنه الهدف الأول وإنهاء الصراع.

في المقابل نجد أن الخلاف على الأرض ما زال مستمرا، جراء ما يمكن أن أصفه بـ»جنون العسكر» الذي تسبب في الصراع الدائر بين الجيش الذي يمتلك قوة سلاح الجو والتنظيم العسكري، بالإضافة إلى الحاضنة الشعبية - وهذا أمر في غاية الأهمية -، وبين قوات الدعم السريع التي تسيطر على مقار عسكرية وأجهزة مهمة وحساسة ومواقع استراتيجية عدة.

صدام العسكر متواصل، وأطماعهم غير المنتهية، دون النظر للمصلحة العامة للدولة، أو حتى النظر برحمة للأوضاع الإنسانية التي تعيشها البلاد، أوصلت السودان إلى هذه الحالة التي انتشر فيها الذعر بين الناس وارتسمت على وجههم ملامح الرعب واليأس، حتى تدافع النازحون للهروب في كل اتجاه طلبا للحياة، مع زيادة فاتورة الغذاء والصحة، وتدهور في الوضع الإنساني الذي كان يعاني قبل بدء الحرب.

إذا سلمنا بما هو مرجح أن الشرارة التي أشعلت فتيل الحرب كانت بسبب رفض قوات الدعم السريع اندماجها مع المؤسسة العسكرية خلال عامين، وسط إصرار الأخيرة على الدمج، إذ إن قوات الدعم السريع تفضل أن تكون عملية الدمج خلال 10 سنوات وفق جداول زمنية، فهذا يعكس برأيي الشخصي انعدام الثقة بين الطرفين، مع وجود أجندات داخلية لكل طرف خصوصا الدعم السريع الذي يريد كسب الوقت لتنفيذ مخططات معينة، في حين أن إصرار الجيش على الدمج بشكل سريع يعكس في المقابل تخوف ما.

إن شكل النزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع يعطي انطباعا مخيفا بأن يسير السودان في طريق يؤدي به إلى حال كحال ليبيا والتشاد، حيث تسود الحروب الأهلية وينعدم الأمن وتنتشر الأسلحة ويتزايد العنف، فضلا عن تفاقم الأوضاع الإنسانية للأسوأ من فقر وجوع وانتشار للأوبئة.

برأيي لا يوجد حل مثالي لهذه الأزمة، لكن الآمال اليوم معلقة بـ»محادثات جدة»، والجهود التي تقودها المملكة العربية السعودية والضغوط الدولية المصاحبة، بحيث تنجح الوساطات في إقناع الفريق عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو، في تجنيب السودان طريق الهلاك، وإعلاء مصلحة الإنسان السوداني وأمنه، وإعادة القوى السياسية السودانية للمشهد من جديد لوضع خارطة طريق جديدة يجتمع في صياغتها جميع أبناء السودان، وإنهاء الحكم العسكري وجعل الانتخابات هي الخيار الأمثل بعد ذلك.

ما يمكن اعتباره أكثر إيلاما بعد وضع هذا الصراع تحت المجهر، هو المواجهة التي نشأت بين أبناء الجلدة الواحدة، أي بين طرفي النزاع الذين يعودون إلى نسيج واحد، فهذا من بيئة ذاك نفسها، وذاك قد يكون أخا أو قريبا لهذا، لذلك أرى أنها معركة التشظي والشتات، فإلى أي نهاية يتجه هذا المسلسل بعد أن شكلت أعمدة الدخان لوحة حزينة في سماء السودان ودخلت «متحف الجثث»، ورائحة الدم أزكمت الأنوف.

binmautaib@