الرأي

صحافة الرأي!

ريما رباح
تشرذم المؤسسات الإعلامية وضغط وسائل التواصل في بيئة العصر المنفتحة غيرت قواعد اللعبة، فمع تراجع أو غياب الثقة في الأخبار ورفض أحادية التفكير يهجر قارئ اليوم الكاتب التقليدي مفرط الاعتداد برأيه - وببساطة - فهناك الكثير من الأماكن التي يمكنه الذهاب إليها للحصول على المعلومات، نعم أيها الكاتب المتعنت قراء اليوم لا يسلمون لك زمام القيادة عن طيب خاطر!!

تبدأ القصة مع قهوة الصباح وتسارع الحياة، تلال من المعلومات والاستبيانات والأبحاث في مواجهة رزم من المشكلات والقضايا ويبدو للقارئ حينئذ كما لو أن كل الآراء الجيدة مطروحة أمامه فما عليه سوى انتقاء الأقرب إلى عقله إنما واقع الأمر مختلف تماما لعلل عدة، أولها أنه لا نهاية للآراء في عالم متسارع التغير، وثانيها محدودية الوقت والطاقة الذهنية واستحالة إحاطة الإنسان بكل العلوم، وتاليها أننا في عصر (مفرط الاستقطاب)، حيث التشبث بالرأي والمكابرة والمعاندة في المؤسسات الإخبارية في أوجه مما يشكك القراء في جودة المحاكمة بشكل جذري.

والنتيجة أن المرء يجد نفسه بين ضجيج المعلومات الهادرة وسيل نصائح المشاهير ونفق وسائل التواصل من جهة وحتمية اتخاذ القرار السريع في مجالات الحياة اليومية من جهة أخرى فيصبح في بحثه عن وجهة النظر السديدة كمن يبحث عن إبرة في مدينة كبيرة من القش، وينتهي المطاف بالقارئ الحصيف حائرا بين البدائل.

هنا تجدر الإضاءة على أهمية القرار الصائب خاصة، فكلما كان تأثير قرار اليوم سيمتد طويلا ارتفعت ضرورة وجود كتاب رأي ممن يعتمدون الأدلة الواقعية والآخذون في الاعتبار تعقيد وغموض الشؤون الإنسانية وإنجازهم يتجلى في تقديم ما يكفي من (إكسير الآراء المدروسة) كخدمة للمجتمع، وهذه هي نقطة التقاطع التي تتأسس عندها صحافة الرأي المستنيرة.

فمن هو كاتب الرأي يا ترى؟ غالبا يعرف أنه القلم الباحث الذي يتبنى منظور الشخص في قلب الحدث بهدف الوصول إلى (مركز الحدث المعقد) وهذا حجر الأساس في الازدهار المجتمعي؛ فالنجاح في نيل الكاتب لاحترام الملايين مبني على النزاهة في نقل الأخبار والالتزام بالحقائق ووضعها في سياقها مع الاستعداد للوقوف في وجه الخطأ بشكل احترافي، مثلا بتسليطه الضوء على تدني الخدمة أو سوء المعاملة بأسلوب هادئ وهادف وإيصال الأخبار دون جلبة أو ضجيج، والمبتغى توفير (مساحة) نابضة للاجتماع بين الناس بما يمكنهم من النظر في (قضايا اليوم) من خلال محادثات منظمة بناءة وبطريقة هادئة أكثر فاعلية وحضارية.

ويتساءل سائل فهل لكل هذا فائدة عملية فعلا؟ الإجابة المباشرة: نعم، في علم النفس يتبوأ مبدأ (الإقناع) مكانة عالية، فهو المسار الأسهل لتغيير المشاعر ووجهات النظر والمواقف عند الناس وهو الأكثر مصداقية ونجاعة من المسار التقليدي القائم على فرض الرأي دون حوار، ولهذا المبدأ مزايا كثر، والسبب الأساسي أن اقتناع الإنسان بالفكرة يجعله متبنيا لها ومدافعا عنها، فالإقناع هو المحرك الأول الذي يتكفل بزيادة دعم المجتمع وتقليل تكلفة هامش الرفض للرأي الموضوعي مما يسهم في تسريع التقدم في عملية التنمية والازدهار، وإذا كان نجاح الصحافة متمحورا حول الاتصال والتواصل مع عموم القراء بمهارة وعلى التوازي كانت التجربة التاريخية تؤصل لمقالات الرأي كسجلات مهمة للمؤرخين والباحثين والمتخصصين في المستقبل.. فكم في هذا البناء من ارتقاء!

عند هذا المنعطف تأتي علامة استفهام جديرة بالتوقف.. فما هي ماهية علاقة الصحافة مع المجتمع؟ الحقيقة الراسخة تجيب بأن المجتمع هو رأس مال الصحافة.. كيف ذلك؟ أولا كتابة الرأي ليست مهمة يسيرة وتزيد طرقاتها مشقة إذا ما كانت هناك فئات في المجتمع تشعر بأنها غير ممثلة أو غير مفهومة أو غير محترمة أو ليست ذات قيمة عالية في وسائل الإعلام الإخبارية، فمثلا قد تنحاز الصحافة الإخبارية - بهدف الربحية إلى رأي معين لإبقاء فئة محددة من القراء سعداء - فتتجاهل وجهات النظر وخبرات ومعارف وآراء الفئات الأخرى على حساب الصورة الواقعية الكاملة.

ثانيا، الصحافة الآن تواجه خطرا يهدد وجودها بأكمله وهي تبذل أقصى إمكاناتها لتنجو بسفينتها من مسمى صحافة بائدة إلى صحافة سائدة، إذن هنا تحضر أهمية المجتمع؛ فالحل الأوحد للصحافة اليوم أن يكون عنوانها الدائم (الصحافة الداعمة للمجتمع) وشراعها قماشه مصنوع من هموم واهتمامات كل شرائح المجتمع وقاموسها إبداء الرأي الأنسب وفقا لمنظورها مع رفع منسوب الاحترام لأولئك الذين قد يخالفونها الرأي، هنا وهنا فقط تحوز المؤسسات فرصة الاستدامة فتصنف رافدا معرفيا في المجتمع المتحضر.

فما هو دور صحافة الرأي؟ إذا كانت وجهة النظر السائدة هي حاصل مجموع نظائرها في أفراد المجتمع فأصلها مجموعة دوائر وجزر صغيرة ومتناثرة، ودور كتاب الرأي إنجاز المهمة الشاقة بأن يقتربوا في تركيزهم على قضية معينة من تفكير أصحابها بشكل مكثف لتجميع حصيلة تراكمية تكون العين الراصدة لكافة الاتجاهات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة؛ فصحافة الرأي هي المؤهلة لإيجاد الحل لهذه العقدة الشائكة بشكل تقني وبفاعلية دقيقة عن طريق تقديم المعلومات الموثوقة اللازمة للأفراد وتحفيز الأفكار الكامنة وتفعيلها لحثهم على اتخاذ مواقف وسلوكيات وقرارات صائبة تصب في صالح سعادتهم وطموحاتهم الحياتية بما يقارب الدرجة المثلى.

فما كل هذا التعقيد (هل وظيفة الصحافة إيصال الخبر أم إبداء الرأي)؟! الإجابة العملية هي أن (صحافة الرأي القوية مبنية على الصحافة الإخبارية القوية).. فالأخيرة تجمع الأخبار الصلبة الحقيقية الراسخة المؤكدة والأولى تحلل وتقيس وتقارن وتمنطق هذه الأصول في آراء واقعية وموضوعية ذات موثوقية إيجابية يعتمد عليها مجتمعيا، وبالتالي كلا النوعين يغذيان بعضهما البعض، وفي النهاية يغدو (الحكم الشخصي) لكاتب الرأي في مكان (المصدر) لكاتب الخبر! ومن أشهر الأمثلة الحديثة على مكانة كتاب الرأي ذلك التقرير الصحفي الذي أظهر للمجتمع حجم الفساد في إدارة الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون (فضيحة وترجيت).

بوصلة الكلام.. استشراف مواقف المواطنين وإبراز الرأي حول القضايا الحياتية المعاصرة هو (إكسير فكر).. والغاية بناء منصة مساندة للمجتمع ودائرة صنع القرار.. فما هي المحصلة؟ بكلمة واحدة (الصحافة الجديدة) صناعة واعدة رفيعة الأهمية معيارها الذهبي درجة التميز والجودة والإبداع في تشكيل الرأي العام في العصر الحديث!