الرأي

أما آن للتعليم أن يتصدر!

فهد إبراهيم المقحم
حين تكون في مجلس يضم عددا من المعلمين سينهال على مسمعك تساؤلات محيرة حول التغيرات المتسارعة في الأنظمة التعليمية والمناهج الدراسية، وما ينتج عن تلك التغيرات من تحديات مربكة؛ تفرز بعض التجاوزات المقلقة. وحين تلتقي بأساتذة جامعيين ترى في أعينهم حرقة على طلبة يواجهون صعوبات في التحصيل العلمي، وآخرين لا يجدون شغفا في ما يتعلمون.

والنتيجة المتوقعة أن نجد في التقارير والدراسات المحلية والدولية المعنية بقياس المخرجات التعليمية ما ينذر بوجود ضعف وخلل يحتاج إلى وقفة وعناية؛ فمثلا، بالنظر إلى نتائج (TIMSS)، وهي دراسة دولية تعقد كل 4 سنوات بهدف تقييم منظومة التعليم العام في الدول المشاركة، نجد أن الدراسة رصدت تراجعا في مستوى معدل التحصيل العلمي لطلابنا في عام 2019 (رياضيات الصف الرابع الابتدائي: 398، علوم الصف الرابع الابتدائي: 402، رياضيات الصف الثاني متوسط: 394، علوم الصف الثاني متوسط: 431)، مقارنة بعام 2011 (رياضيات الصف الرابع الابتدائي: 410، علوم الصف الرابع الابتدائي: 429، رياضيات الصف الثاني متوسط: 394، علوم الصف الثاني متوسط: 436).

يعد هذا المستوى أقل من المعدل الدولي لنتائج الدراسة (500)، وهو ما جعلنا ودول المنطقة في النصف الأدنى من القائمة لسنوات متعاقبة، كما أن نتائج الاختبارات الوطنية، التي تنفذها هيئة تقويم التعليم والتدريب في المملكة، تؤكد نتائج هذه الدراسة الدولية (TIMSS).

ولئن كانت الجهود الوطنية المبذولة في التعليم النظامي خلال مئة عام مشكورة، إلا أن مملكتنا الغالية تستحق أكثر من ذلك، وهذا ما أكده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظه الله- بقوله «إن مستقبل المملكة مبشر وواعد -بإذن الله- وتستحق بلادنا الغالية أكثر مما تحقق»، وقال أيضا «مستقبل وطننا الذي نبنيه معا لن نقبل إلا أن نجعله في مقدمة دول العالم، بالتعليم والتأهيل».

حين كنت ممثلا للمملكة في التقييمات الدولية للأنظمة التعليمية (TIMSS, PIRLS, PISA and TALIS) حرصت على لقاء ممثلي الدول المتصدرة في نتائج تلك التقييمات ومعرفة أبرز أسباب تقدمهم، فوجدت مثلا، أن العائلة في سنغافورة تبذل جهدا مضاعفا لرفع مستوى التحصيل العلمي لأبنائهم. والمعلم في فنلندا هو عصب جودة التعليم، فيتم اختياره وتأهيله بعناية فائقة، وتوفير الدعم اللازم لتمكينه، ومن ثم منحه الثقة الكاملة في تعليم الطلبة بما يتناسب مع ظروفهم وفروقاتهم الفردية. وفي المملكة المتحدة تركز المدارس على العلوم الأساسية، وإضفاء المتعة في التعليم، وإعطاء الطلبة فرصة كافية لتطبيق المعلومات وكسب المهارات التي تؤهلهم للتعلم الذاتي والتعامل الجيد مع مجريات الحياة.

والمتأمل إلى تلك الأنظمة التعليمية، مع اتفاقها في التميز والحصول على أعلى المستويات، يجد بينها فروقات واختلافات، فعلى سبيل المثال، معدل ما يقضيه الطلبة في مدارس فنلندا هو 5 ساعات دراسية لمدة 190 يوما في السنة؛ بينما يقضي الطلبة في مدارس كوريا الجنوبية نحو 8 ساعات دراسية لمدة 220 يوما في السنة. وفي إستونيا يعطى المعلم مرونة في تصميم المناهج الدراسية، وفق ضوابط ومعايير وطنية، لضمان استيعاب الظروف المحيطة والفروقات الفردية بين الطلبة؛ في حين أن المعلم في ألمانيا مطالب باتباع مناهج دراسية مفصلة ومعتمدة مركزيا.

التميز والقمة هدفا، إلا أن وسائل الوصول إليها متعددة ومتغيرة، ولذا من البدهي حين نطلع على تلك الأنظمة التعليمية والتجارب المختلفة، أن نأخذ الأحسن منها، مع ضرورة تطويرها بما يتناسب مع السياق المحلي ومعطياته. ومن هذا المنطلق، تبنت سنغافورة نموذجا عمليا للاستفادة من أفضل الممارسات التعليمية، بعد دراستها وتطوير المناسب منها وفقا للاحتياجات الراهنة، مما مكنهم من بناء نظام تعليمي يعد اليوم واحدا من أكثر الأنظمة التعليمية تقدما في العالم.

ذكر أندرياس شلايشر، الخبير الدولي في سياسات التعليم ومدير عام التعليم والمهارات في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، عوامل رئيسة تسهم في نجاح الأنظمة التعليمية خلال العقدين المقبلين، والتي يمكن اختصارها في ما يلي: رفع إنتاجية التعلم من خلال التركيز على العلوم الأساسية والتأكد من استيعاب الطلبة لها ولعمقها، وإكساب الطلبة المهارات اللازمة والقدرة على تطبيقها واستثمارها في ميادين العمل والحياة، وتعزيز قدرات الطلبة في عصر الرقمنة على تحليل البيانات واستخلاص المعلومات، والتأهيل الجيد للمعلمين وتعزيز تبادل الخبرات بينهم، وأخيرا، التأهيل الجيد للمدارس ومنح قياداتها ومعلميها الصلاحيات اللازمة لتحقيق الأهداف التعليمية.

تبني الأمم حضاراتها من رحم التعليم، فبصلاحه تستقيم مجريات الصحة والسلامة والصناعة والتجارة وغيرها من مجالات الحياة، وهو ما أكده خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - بقوله: «التعليم ركيزة أساسية تتحقق بها تطلعات شعوب أمتنا الإسلامية نحو التقدم والازدهار والتنمية والرقي الحضاري في المعارف والعلوم النافعة، والشباب هم أمل الأمة وعدة المستقبل».

لقد تفوقت مملكتنا الحبيبة عالميا في مجالات عدة، كالخدمات الرقمية والمؤشرات الاقتصادية والأمنية وغيرها، بل ونجحت المملكة نجاحًا باهرا في مواجهة جائحة كورونا، وقدمت للعالم أنموذجا فريدا في تعاملها مع تداعيات الأزمة صحيا واجتماعيا واقتصاديا، فاقت بهذا النجاح دولا عظمى تاهت في ظلمات الأزمة. يعود هذا التفوق -بعد توفيق الله- إلى اكتمال مسبباته: قيادة ملهمة وداعمة، وخطط طموحة مستدامة بنيت تشاركيا من قبل كافة الأطراف المعنية، ومخلصون تفانوا بخبراتهم وقدراتهم في تنفيذ تلك الخطط ولم يرضوا بالقمة بديلا.

وبالنظر إلى هذا النجاحات، وما توليه قيادتنا الرشيدة من اهتمام ودعم بالغ للتعليم، فالمملكة اليوم تحتل المركز الرابع في الإنفاق الحكومي على التعليم وفق تقرير الكتاب السنوي للتنافسية العالمية (IMD 2020)، وما نراه من نماذج مبهرة من أساتذة وتربويين مخلصين، وإنجازات لطلابنا في ميادين المحافل والمنافسات الدولية، ندرك أننا قادرون -بإذن الله- على إحداث نقلة نوعية في تعليمنا نحو الصدارة، متى ما تكاتفت الجهود الوطنية والمؤسسات المعنية في تحقيق هذه الرؤية الطموحة.

moqhim@