الرأي

حقبة الصينوفوبيا

صهيب الصالح
أسقطت مقاتلتان تابعتان لسلاح الجو في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي منطادا صينيا قبالة السواحل الشرقية لكارولينا، بعدما دخل الحدود الأمريكية من الجهة الشمالية الغربية، أي بعدما قطع مسافات شاسعة فوق الجغرافيا الأمريكية، وأعطى وقتا كافيا للتباحث مع الجانب الصيني في كيفية التعامل معه قبل إسقاطه بالقوة، وتعمل الولايات المتحدة راهنا على انتشال القطع المتطايرة من المنطاد على نطاق واسع في المياه الإقليمية الأمريكية، لبحثها عن دليل يؤكد موقفها الذي يتهم الصين بالتجسس، وهو ما تنفيه الصين بالطبع لتؤكد بأنه منطاد مدني غرضه رصد الأحوال الجوية لدعم الأبحاث وتطويرها، وكانت الرياح الغربية القوية هي القوة القاهرة التي أخرجت المنطاد عن مساره، وهو ما حول هذه الحادثة إلى قضية رأي عام أمريكي، وجعل منها هدفا آخر للانقسام بين الحزبين، خاصة بعد خطوات كانت محل ترحيب للتفاهم والحوار بين البلدين؛ ما يوحي بأن الذهنية الأمريكية انجرفت حقا إلى الدخول في حقبة يمكن تسميتها بـ«الصينوفوبيا».

وكانت الولايات المتحدة قد دشنت خطوات متقدمة في نهجها الدبلوماسي لإدارة خلافاتها مع الصين، خلال عملية الحوار التي كانت قائمة بينها وبين الجانب الصيني، وكانت تلك الخطوات محل ترحيب حار للنخبة الحاكمة في الصين، خاصة بعدما شهدت العلاقات بين البلدين تصعيدا مفتعلا في أغسطس الماضي عندما أدت رئيسة مجلس النواب الأمريكي الديمقراطية السابقة نانسي بيلوسي زيارة ليست مجدية إلى تايوان، ردت عليها الصين بإجراء مناورات عسكرية شاملة استمرت 3 أيام وغطت 6 مناطق في حدود تايوان، ولكن قمة مجموعة العشرين التي عقدت في بالي نوفمبر الماضي فتحت جسرا للحوار بين الجانبين، وتوج بلقاء على مستوى القمة بين الرئيس الأمريكي ونظيره الصيني كأول لقاء من هذا النوع في 3 سنوات، واتفق الجانبان حينها على إدارة الخلافات بوسائل التفاهم والتعاون، الأمر الذي كان خلف تحديد تاريخ 5 فبراير موعدا لزيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى الصين.

وعلى خلاف ما تروج له إدارة بايدن وتحض العالم على اعتماده من اعتبار الدبلوماسية هي الأداة الأكثر فاعلية في حلحلة الأزمات وإدارة الخلافات، فقد أظهر تعامل الولايات المتحدة مع المنطاد الصيني بأنها مصممة على الانطلاق نحو كل ما هو صيني من منظور الأمن القومي، إذ أطلقت تهمة التجسس وتعاملت معه من خلال أدوات القوة العسكرية الصلبة، وألغت على إثره زيارة كانت مقررة مسبقا لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في اليوم التالي من إسقاط المنطاد، وهي بذلك تريد إبلاغ الصين بأن الخيار العسكري سيظل قائما حتى ولو كان على حساب المصالح الجيوسياسية وخصوصية العلاقات الثنائية، وقد أدى ذلك إلى خلق بلبلة في الرأي العام الأمريكي، سيما الشخصيات العامة المنتمية للحزبين، إذ حاول الفريقان الدفاع عن مواقفهما الحزبية خلال رمي التهم على الحزب الآخر ولكن في حدود ضيقة تركز إما على عملية إسقاط المنطاد نفسها أو على السماح له بدخول الأجواء الأمريكية من عدمه، ما يعني أن الحوار الداخلي كان بين الصقور والحمائم التي تتفق بأن كل ما هو صيني هو مهدد للأمن القومي الأمريكي، ليخرج رئيس مجلس النواب الراهن الجمهوري كيفن مكارثي بتصريح يؤكد فيه سيره على خطى سلفه الديمقراطية بيلوسي ويعلن عن نيته زيارة تايوان.

ويبدو أن الولايات المتحدة قد استشعرت جدية الصين في رفضها سلوك القوة، وتحسست قدرتها على التماشي مع التصعيد المفتعل، خاصة أن الصين قد عززت من نوايا منطادها الحسنة، إذ أقالت رئيس هيئة الأحوال الجوية وحملته مسؤولية انحراف المنطاد، كما أعلنت حقها في اتخاذ التدابير التي تراها ضرورية للتعامل مع المواقف المشابهة مع الولايات المتحدة على اعتبار السلوك الأمريكي كان انتهاكا بالقوة للممارسات الدولية ويشكل سابقة خطيرة، ما دعا الولايات المتحدة إلى اللجوء للحفاظ على أساليب تخدير دبلوماسية تسربها لوسائل الإعلام الأمريكية تنفي فيها صلة الرئيس الصيني بالمنطاد، بل وتنفي أيضا أن تكون القيادة العليا للجيش الصيني والحزب الشيوعي الحاكم على علم به أيضا، وروجت في الوقت ذاته أن ذلك المنطاد كان واحدا من بين مجموعة تحلق فوق 40 دولة في 5 قارات، لتنجرف أستراليا تلقائيا خلف هذا الهاجس وتقرر الاتجاه إلى إزالة كاميرات صينية الصنع من مباني وزارة الدفاع حماية لنفسها من التجسس المحتمل.

وبناء على ما تقدم يمكن القول، إن تهمة التجسس التي ترميها الولايات المتحدة بحق الصين كانت رداء أنيقا يشرعن خطط احتواء التقنية الصينية المتقدمة ويحد من عملقتها أكثر، وعلى الصين والعالم برمته التعايش الآن مع حقبة الهاجس الأمريكي من كل ما هو صيني، فسابقا كان الشارع الأمريكي قد تحدث عن تطبيق تيك توك وشبكة الجيل الخامس وهواوي، وأصبح اليوم يتحدث عن منطاد غير مأهول، وهذا يدلل بامتياز على أن الحزبين الأمريكيين قد دخلا بالفعل حقبة الصينوفوبيا، لذا قد نشهد في الزمن المقبل ضغوطا أمريكية للاصطفاف الدولي في مقابل الصين قبل اكتمال مشروعها في طريق الحرير الذي يستهدف ربط الجغرافيا بالبيئة الاقتصادية والأمنية.

@9oba_91