الاقتصاد الواقعي.. "لا تبع ما لا تملك"!
من خلال تجارب تجاوزت الخمسين عاماً، أكرمني الله فأنار لي جوانب كثيرة عن الإسلام في واحد من أهم ما يلامس حياة الناس، ذلك هو الجانب الاقتصادي.
الاثنين / 2 / جمادى الأولى / 1435 هـ - 00:45 - الاثنين 3 مارس 2014 00:45
من خلال تجارب تجاوزت الخمسين عاماً، أكرمني الله فأنار لي جوانب كثيرة عن الإسلام في واحد من أهم ما يلامس حياة الناس، ذلك هو الجانب الاقتصادي. ولعلني مطالب بأن أعزو كل ما أنا فيه من فهم وخير وبركة وقناعة ورضا إلى الله أولاً، ثم إلى “رضا الوالدين” ثم إلى كل من علمني وأرشدني وهم بحمد الله كُثر، وفي مقدمتهم والدتي (رحمها الله)، التي أنكرت عليّ الاقتراض من بنك بفائدة، وكأنها قد أدركت (رحمةُ الله عليها) بفطرتها السليمة أن في هذا “حرمانية”، ولم تكتف يوماً بطرح رأيها وهي عندي المطاعةُ الآمرة.. ولكنها طلبت مني المزيد من الفهم والقناعة.. أن أسترشد برأي الشيخ محمد متولي الشعراوي (يرحمه الله). فسألته حين التقيته: يا شيخ... وحدثته بحديث أمي، مؤكداً له أنني مضطر لأخذ هذا القرض لأبدأ به أعمالي وتجارتي. فقال يرحمه الله: أمضطر لهذا القرض لأجل أن تأكل؟ قلت: لا. قال: لأجل أن تسكن؟ قلت: لا. قال: لأجل داء أو دواء؟ قلت: لا. فقرأ علي: “ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب”. فذهبت وكلي ثقة وإيمان إلى أحد البنوك العربية العاملة في جدة.. وطلبت منه أن نعمل معاً بنظام المضاربة.. أي البنك بالمال وأنا بالجهد والعمل.. فأخبرني مدير البنك أن هذه الطريقة على الرغم من سلامتها الشرعية لكن البنك لا يتعامل بها.. وطلب مني الانتظار حتى يبعث للبنك الرئيسي في القاهرة بالفكرة مستأذناً في بدئها. وتأخر رد البنك في القاهرة كثيراً.. ومع كثرة مراجعتي ومتابعتي، هدى الله المدير في جدة أن يأخذ الأمر على مسؤوليته.. وبدأنا وكانت النتيجة أن ربح البنك ربحاً يفوق سعر الفائدة العادية وربحت أنا تمويلاً خالياً من الشبهات.. ورزقني اللهُ من حيث لا أحتسب، وكبرت أعمالي وتضاعفت عشرات المرات.. وصار البنك صديقي.. وكانت مستحقاتي من عملي مع الحكومة في المملكة تصرف لي بشيكات على البنك الأمريكي.. وكانت شيكاتي لا تستقر عندهم إلا أياماً أو ساعات.. وأحولها مباشرةً إلى بنك القاهرة في جدة. فهو الذي وقف معي وتبنى فكرتي.. وحين سألني مدير البنك الأمريكي: لماذا تحول مستحقاتك إلى بنك القاهرة مباشرةً؟ أخبرته عن قصتي معه.. فطلب تفصيلاً فأعطيته، فأرسل إلى أمريكا بالخبر فجاءت موافقة بنك القاهرة، وهنا تكمن العظمة في هذا الدين الخالد، الذي ارتضاه لنا خالق الدنيا والناس منهجاً وأسلوب حياة. فهو دين مقنع حتى لغير من يدينون به إذا ما أُعمل العقل وساد المنطق. هذا الأمر دفعني وعلى مدار أربعين سنة أن أواظب على عقد وحضور ندوات البركة للاقتصاد الإسلامي وندوات اقرأ لفقه الإعلام إيماناً بعظمة الإسلام التي لا تزيدها الأيام إلا شموخاً ورسوخاً.. في كل الجوانب وفي كل المقاصد.. ولا شك أن الاقتصاد هو من أهم وأعجب هذه الجوانب.. والذي لو فهمناه مقصداً ومبدأً من خلال ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.. وقمنا بتأصيل وتفعيل كل ذلك من خلال تطبيقنا في بلداننا فإننا نقدم بذلك للبشرية هدية نفيسةً وثمينة. وسأذكر لكم واقعه واحدة فقط لتأكيد هذا الأمر من وقائع كثيرة: زارت المستشارة الألمانية ميركل المملكة العربية السعودية ومعها وفد وزاري رفيع. والتقيت بها وهم معها في غرفة جدة التجارية.. وكانت على علم بأولوية اشتغالي بالمصارف الإسلامية وسألتني عن سر عدم تأثر البنوك الإسلامية بالأزمة المالية العالمية التي طحنت بنوك الدنيا كلها آنذاك!!! فأجبتها: نحن نعمل بالاقتصاد الواقعي وبه نؤمن.. وليس بالاقتصاد الافتراضي الذي تعمل به بنوك العالم. وهو أمر دلنا عليه ديننا وهدانا له نبينا محمد عليه وعلى أنبياء الله الصلاة والسلام. قالت: دُلني... قلت: إليك هذا الحديث النبوي الشريف: “لا تبع ما لا تملك”. ولو طبق فقط هذا الحديث لما أفلس بنك ولا انكسر فرد ولا ضاعت أمة.. طلبت المستشارة مزيداً من الإيضاح والتفصيل فأرسلت لها قبل سفرها ثلاث صفحات في هذا الخصوص.. وبعد شهرين هاتفتني قائلةً: “لا تبع ما لا تملك”. (أصبح قانوناً اليوم في ألمانيا). عزيزي القارئ: بالله عليك ألا تستحق هذه السيدةُ المستشارةُ الرئيسة التقدير والاحترام على شجاعتها في اتخاذ قرار بقانون كهذا يصب في مصلحة بلادها وشعبها وهي تعلم أنه أمر نبوي صريح من النبي العربي الأمي صلى الله عليه وسلم، فلم تستنكف أو تستكبر أن يرشدها إليه إنسان عربّي مسلم؟. وأحمد الله أننا لا ننتظر في المقابل يوماً أن يرشد أحدٌ من أهل الكتاب أو ممن لا كتاب لهم حاكماً عربياً إلى أمر من هذا القبيل، لأن حكامنا يعلمون كما نعلم أن فينا ما إن تمسكنا به فلن نضل أبداً.. كتاب الله وسنة حبيبه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين.