طبيعة الرجولة
الاحد / 7 / رجب / 1444 هـ - 01:01 - الاحد 29 يناير 2023 01:01
«الشجاعة التي نريدها ونكافئ عليها، ليست شجاعة الموت بطريقة مشرفة، بل شجاعة الحياة برجولة..».
- توماس كارليل
ما الذي تعنيه كلمة الرجولة؟ هذا المفهوم الواسع الذي يصعب إدراك حدوده. إنها كلمة تحتاج إلى وقفة وتفنيد.. خصوصا أننا نعيش في عصر عالمي تحاول فيه جهات خبيثة بعثرة الهوية، والعبث بهوية الجنوسة سواء للرجل أو المرأة.
من أجل الوقوع الدقيق لمعنى الرجولة أعرض في هذا المقال ثلاثة أركان أتصور أنها ما يقوم عليه مفهوم الرجولة. لا شك أن مثل هذا التصور لا أدعي أنني طرحته باجتهاد ذاتي محض، بل هي نتيجة قراءة للتاريخ الإنساني، واطلاع معقول للنظريات النفسية وعلم الشخصيات، وكذلك الملاحظة الشخصية التي يعيش كل منا تجارب الحياة ويتعلم منها.
أولا: القتالية والاقتناص
لو عدنا للرجل البدائي.. قبل وجود الحضارة وقبل التاريخ نفسه، ماذا كان دور الرجل في حياة المجموعة أو القبيلة أو الأسرة؟ ما النشاط الرئيس الذي كان يقوم به في تلك الفيافي والبراري والغابات أو القفار؟ لقد كان الدور الرئيس الذي يمارسه كرجل ويوائم تكوينه الجيني والنفسي هو الدور القتالي والاقتناص! فهو يقاتل القبائل أو المجموعات الغازية هجوما أو دفاعا، وهو أيضا يذهب بشكل منتظم لرحلات الصيد الشاقة من أجل توفير الوجبات للنساء والأطفال.
هكذا كان الرجل في تاريخه السحيق في القدم لكنه اليوم وعبر جيناته المتوارثة يظل هو ذات الرجل ويتجلى وجوده الحقيقي في الشخصية القتالية والاقتناص.. لكن مع وجود متغيرات جديدة حوله اليوم، وجود الحضارة والدين والقيم والمعتقدات والأنظمة والقوانين والمبادئ.. لم يعد ممكنا ولا مناسبا أن يوجه قتاليته لما كان يوجهها أسلافه من الرجال قبل الآف السنين. ولم يعد السؤال الصحيح: هل ما يزال الرجل صاحب نزعة قتالية وتيقظ للاقتناص؟ وإنما السؤال المناسب: ما الذي من أجله على الرجل أن يقاتل ويقتنص الفرص في عالم اليوم؟ بمعنى أن الصفة باقية ويجب أن تبقى فهي أمر محوري في تكوين الرجل السليم. ولكن كيف يوظفها وإلى أين يوجهها؟
إننا نلاحظ أن الرجل ينزع إلى الرياضات الشاقة والألعاب القتالية، ويتميز بروح قتالية في المنافسات الرياضية بكافة أشكالها، واليوم ما من وسيلة تعزز طبيعة الرجل النفسية كالرياضات القوية والمستديمة، فالرجل لم يخلق ليكون كائنا قليل الحراك أو ضعيف العزم والبنية مترهل الجسد معدوم اللياقة! وما من عصر مر على التاريخ إلا وكان الرجال فيه يتنافسون من أجل أن يكون أداؤهم البدني في أعلى مستوياته هذا أمر ليس مقصورا على الرياضيين فحسب كما نتصور. إنها من المفترض حالة الرجل الطبيعية أن يكون على مستوى عال من اللياقة والقوة البدنية متى ما أمكنه ذلك.
في حاضرنا الراهن تعد قتالية الرجل ذات أبعاد جديدة مختلفة كثيرا عما كانت عليه عند الرجل البدائي.. إنه اليوم ذلك الرجل الذي يقاتل من أجل تحقيق أهدافه المشروعة، هو الرجل الذي لا يتوقف عن الطموح، إنه ليس الرجل الذي يعلن الهزيمة مبكرا.. سيظل يعمل ويثابر من أجل أن يكون شخصا ناجحا وصاحب قيمة اجتماعية معتبرة، ويجاهد من أجل أن يوفر لنفسه ولمن حوله الحياة الكريمة اللائقة.
إنه قادر على التنافس، لا يشعر بالملل من الأعمال التي تحتاج إلى نفس طويل، وقادر على تجاوز تحديات الإنجازات طويلة المدى، وهو ليس شخصية قتالية هوجاء تخوض المغامرات الخاسرة والبائسة، ولكنها شخصية قتالية قادرة على اقتناص الفرص، فإذا كان سلفه من الرجال البدائيين يمشي بحذر ويترقب طريدته من الحيوانات ليصطادها، فإنه اليوم ذلك الرجل الذي لا يجعل الفرص تمر من أمامه هدرا.. فهو نبيه متيقظ كالصقر.. وكم لاحظنا وعايشنا من الرجال من طور هذه الغريزة العظيمة في نفسه وأحسنوا استثمار فترات هبوط الأسعار في المجالات المختلفة من الأنشطة التجارية، أو تنبهوا لموجات الطفرات الاقتصادية والثقافية والعلمية ولم يتأخروا أبدا في أخذ نصيبهم منها.. لقد كانوا قتاليين أذكياء.. لا تضيع الفرص المناسبة من أمامهم.
هذه إحدى ركائز الرجولة، وهي عند النقيض.. تجدهم أشخاصا لا طموح لهم، يتجنبون المنافسة، ويخافون خوض التجارب، يرضون بأي وضع يعيشونه ليس رضا القناعة وإنما رضا البلادة، لا يؤمنون بوضع أهداف يقاتلون من أجل تحقيقها، ولا يرون في الحياة ما يثير اهتمامهم غير الانشغال بالتوافه! وهذا لا شك نقص في الرجولة، وهو نقص أكثر من يلاحظه النساء، وهن ينفرن من هؤلاء الرجال، وإذا ارتبطوا بهم فإنهم لا يحترمونهم، ولا يشعرن بأن الحياة معهم يمكن أن تكون حياة ممتعة.
ثانيا: الحماية والرعاية
وهو أحد أهم أركان الرجولة السليمة، فالرجل بغريزته وفطرته الطبيعية يشعر باحتياج كبير بأن يكون مسؤولا عن حماية ورعاية أحد ما. قد يقول قائل إنه وللأسف ثمة انطفاء ملحوظ في عينة غير قليلة من الرجال لهذه الغريزة، لقد صاروا يتنصلون من مسؤولياتهم الأسرية والاجتماعية، وربما أصبحوا هم مصدر خطر لمن يعولون، يضايقونهم في أرزاقهم ويملؤون المنازل بالخوف والرعب والقلق والحرمان. أقول ليس الواقع اليوم هو المقياس، لعوامل واعتبارات كثيرة لم تكن موجودة في السابق كان لها دور في تشويه الهوية لدى الإنسان.
ولكن متى تنصل الرجل عن أحد أركان الرجولة والتي منها الرعاية والحماية فإنه قطعا إن عاجلا أو آجلا سيعاني، وستكون معاناته داخلية وربما سيصاب في فترة ما بالارتياب والقلق والاكتئاب وربما الهلوسة، والمؤلم أكثر أنه لن يعرف سبب هذه المعاناة النفسية، باعتبار أنه لا يدرك غريزته وفطرته الحقيقية وأثرها النفسي عندما لا يتم التواؤم معها بالشكل السليم. فالرجل منذ وجوده على خارطة الأرض كان ولا يزال أحد أهم أنشطته اليومية أن يحمي من يعول وأن يرعاهم وأن يوفر لهم الأمن والسند وأن يقاتل أي خطر يمكن أن يقترب منهم حتى لو افتدى بنفسه من أجل حمايتهم.. وفي حال غابت هذه الغريزة أو الفطرة فإن الرجولة تضمحل وتتلاشى مع الزمن، ويعقبها اعتلالات نفسية عميقة.
ثالثا: الجنس وملامح الرجولة
إن مفردة الجنس أحد أكثر المفردات التباسا وإشكالا في العديد من الثقافات وبالخصوص الثقافة العربية، إننا عبر مدى زمني طويل وللأسف ربطنا دون وعي مفردة الجنس بمفردة الزنى، فأصبحنا ذهنيا نتعامل مع مفردة الجنس كأننا نتعامل مع مفردة الزنى، ولكن الزنى أمر غير شرعي ومحرم ومدان في كل الثقافات ويعد في الإسلام كبيرة من كبائر الذنوب.. أما الجنس فهو موضوع آخر تماما، الجنس في ذاته عملية من أهم وأعظم احتياجات الإنسان للرجل كان أو المرأة، كما أنها عملية تحدث من حولنا في كل الكائنات بشكل دائم ومستمر ودون انقطاع، فالحيوانات والحشرات والنباتات والأزهار والأشجار كلها تمارس عملية الجنس بشكل يضمن سلامتها أولا، ومن ثم بقاءها وانتشارها وما يعقب ذلك من بناء لحياة كوكب الأرض بكافة جوانبه.
علينا أن ندرك هذه الحقيقة ولا نخشاها ولا نتعامل معها بالتجاهل أو الكبت؛ لأنها في لحظة من اللحظات ستسوق أي فرد حتى يفرغها في غير طريقها الصحيح.. انظر لأي شاب سواء كان من أسرة غنية أو أسرة فقيرة، سواء كان متخرجا من أعرق الجامعات العلمية العالمية أو أميا لم يدخل حتى المدرسة، سواء كان متدينا متمسكا بعقيدته أو شخصا لا يلتزم بالدين ولا يبالي به، سواء كان واعيا أو جاهلا، من أي ثقافة من أي شعب من أي دين.. ما أن يبلغ العشرينات وأول فكرة تحوم في رأسه وتصر عليه هي فكرة الزواج! ذلك أن الطاقة الجنسية لدى الرجل لها ارتباط وثيق وعميق بهويته ورجولته، والرجل الذي يفتقد الجنس في حياته إن عاجلا أو آجلا سينهار أو سيفقد جزءا من كينونته أو ستحاصره الآفات والعلل الجسدية والذهنية من كل مكان.
إن معظم العلل والأمراض الجسدية التي تهاجم الرجال اليوم بعد سن الخمسين يعود أهم أسبابها لفقدان الطاقة الجنسية وممارستها، ومن ينظر للتاريخ العربي والإسلامي سيجد أدلة واضحة ودامغة أن الأصل في حياة الرجل هو التعدد والاستثناء هو الاكتفاء بزوجة واحدة.
وهذا كان معمولا به إلى زمن قريب فقبل قرن من الزمان كان التعدد عرفا اجتماعيا لا يجادل فيه أحد. ذلك ببساطة لأنها طبيعة الرجولة، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن الرجل الذي يكتفي بزوجة واحدة ناقص الرجولة فهذا بطبيعة السياق ليس المقصود من الكلام، وإنما الرجل الذي لا يعدد عليه ألا يتوقف عن المعاشرة الزوجية وأن يمارسها بانتظام فهي طاقة رجولية يجب أن تجد مكانها المباح لتعمل وبالتالي تعود على حياة الرجل المعنوية والجسدية بالقوة والراحة. أو سيحصل ما نراه اليوم من تسرب هذه الطاقات لمنزلقات وعبث أخلاقي مدمر للرجل والمجتمع.
في ذات السياق لا ينحصر مفهوم الجنس على العملية الجنسية المباشرة وحدها فهي جزء من أجزاء تكوين كامل وتام وضعه الله في الرجل. ومن أهم ملامح هذا التكوين هو هيئة الرجل وشخصيته وملامحه وصوته وطريقة سيره والشعر الذي ينبت في وجهه واهتماماته الرجولية، ومن يقل إن هذه الملامح لا قيمة لها فهو واهم، ومن يحاربوا اليوم الفطرة السليمة للرجل يبدؤوا أولا بتغيير تلك الملامح إنها أول خطوة لتمزيق الهوية الرجولية، فيجعلون الرجل من خلال الموضة والدعاية يظهر في صورته وأدائه وملامحه وملابسه أبعد ما يكون عن ملامح الرجل.
إننا لو عدنا فقط بالزمن مئة عام فإنك لن تجد في أي شعب ولا أي ثقافة ولا أي مجتمع رجلا يخرج حاسر الرأس أو لا يربي شعر شاربه أو لحيته أو لا يتهندم بلباس الرجال فعند العرب كانت العمامة أو الغترة والعقال والبشت (العباءة العربية) ملابس يلبسها الرجال في كل وقت لم تكن مخصصة للمناسبات فقط، وعند الغرب كانت القبعات الطويلة وعند الأتراك والشام ومصر الطربوش والعمة، وفي الثقافات الأخرى الغبانة والقبعات والملابس التي يتزين بها الرجال على اختلاف شكلها وهيئتها كانت تدل على شيء واحد أن للرجل هيبة ومكانة وعليه ألا يخرج حاسر الرأس، وأن يتزين بالملابس التي تزيده قوة وهيبة ورجولة.
بالتأكيد لا أدعو لأن يعود هذا كله فهي دعوة قد تكون منافية للواقع، ولكن لا بد أن يعي الرجل تمام الوعي بأن الملامح الرجولية ركن أساسي من هويته التي عليه أن يلبي احتياجه لها باستمرار.
يمكن أن أقول أخيرا.. أن الإنسان مفطور على صفات معينة ومتى ما انساق لأوهام أو عادات غريبة تجعله يبتعد عن هويته الحقيقية، فإن ذلك أسوأ ما يمكن أن يفعله إنسان بنفسه.. إنها محاولة أشبه بأن ترى نمرا أو أسدا يريد أن يكون خروفا، أو ديكا يحاول أن يكون دجاجة، إن هذا أمر غير متصور في عالم الحيوان فكيف يمكن أن يتصور في عالم الإنسان؟!
- توماس كارليل
ما الذي تعنيه كلمة الرجولة؟ هذا المفهوم الواسع الذي يصعب إدراك حدوده. إنها كلمة تحتاج إلى وقفة وتفنيد.. خصوصا أننا نعيش في عصر عالمي تحاول فيه جهات خبيثة بعثرة الهوية، والعبث بهوية الجنوسة سواء للرجل أو المرأة.
من أجل الوقوع الدقيق لمعنى الرجولة أعرض في هذا المقال ثلاثة أركان أتصور أنها ما يقوم عليه مفهوم الرجولة. لا شك أن مثل هذا التصور لا أدعي أنني طرحته باجتهاد ذاتي محض، بل هي نتيجة قراءة للتاريخ الإنساني، واطلاع معقول للنظريات النفسية وعلم الشخصيات، وكذلك الملاحظة الشخصية التي يعيش كل منا تجارب الحياة ويتعلم منها.
أولا: القتالية والاقتناص
لو عدنا للرجل البدائي.. قبل وجود الحضارة وقبل التاريخ نفسه، ماذا كان دور الرجل في حياة المجموعة أو القبيلة أو الأسرة؟ ما النشاط الرئيس الذي كان يقوم به في تلك الفيافي والبراري والغابات أو القفار؟ لقد كان الدور الرئيس الذي يمارسه كرجل ويوائم تكوينه الجيني والنفسي هو الدور القتالي والاقتناص! فهو يقاتل القبائل أو المجموعات الغازية هجوما أو دفاعا، وهو أيضا يذهب بشكل منتظم لرحلات الصيد الشاقة من أجل توفير الوجبات للنساء والأطفال.
هكذا كان الرجل في تاريخه السحيق في القدم لكنه اليوم وعبر جيناته المتوارثة يظل هو ذات الرجل ويتجلى وجوده الحقيقي في الشخصية القتالية والاقتناص.. لكن مع وجود متغيرات جديدة حوله اليوم، وجود الحضارة والدين والقيم والمعتقدات والأنظمة والقوانين والمبادئ.. لم يعد ممكنا ولا مناسبا أن يوجه قتاليته لما كان يوجهها أسلافه من الرجال قبل الآف السنين. ولم يعد السؤال الصحيح: هل ما يزال الرجل صاحب نزعة قتالية وتيقظ للاقتناص؟ وإنما السؤال المناسب: ما الذي من أجله على الرجل أن يقاتل ويقتنص الفرص في عالم اليوم؟ بمعنى أن الصفة باقية ويجب أن تبقى فهي أمر محوري في تكوين الرجل السليم. ولكن كيف يوظفها وإلى أين يوجهها؟
إننا نلاحظ أن الرجل ينزع إلى الرياضات الشاقة والألعاب القتالية، ويتميز بروح قتالية في المنافسات الرياضية بكافة أشكالها، واليوم ما من وسيلة تعزز طبيعة الرجل النفسية كالرياضات القوية والمستديمة، فالرجل لم يخلق ليكون كائنا قليل الحراك أو ضعيف العزم والبنية مترهل الجسد معدوم اللياقة! وما من عصر مر على التاريخ إلا وكان الرجال فيه يتنافسون من أجل أن يكون أداؤهم البدني في أعلى مستوياته هذا أمر ليس مقصورا على الرياضيين فحسب كما نتصور. إنها من المفترض حالة الرجل الطبيعية أن يكون على مستوى عال من اللياقة والقوة البدنية متى ما أمكنه ذلك.
في حاضرنا الراهن تعد قتالية الرجل ذات أبعاد جديدة مختلفة كثيرا عما كانت عليه عند الرجل البدائي.. إنه اليوم ذلك الرجل الذي يقاتل من أجل تحقيق أهدافه المشروعة، هو الرجل الذي لا يتوقف عن الطموح، إنه ليس الرجل الذي يعلن الهزيمة مبكرا.. سيظل يعمل ويثابر من أجل أن يكون شخصا ناجحا وصاحب قيمة اجتماعية معتبرة، ويجاهد من أجل أن يوفر لنفسه ولمن حوله الحياة الكريمة اللائقة.
إنه قادر على التنافس، لا يشعر بالملل من الأعمال التي تحتاج إلى نفس طويل، وقادر على تجاوز تحديات الإنجازات طويلة المدى، وهو ليس شخصية قتالية هوجاء تخوض المغامرات الخاسرة والبائسة، ولكنها شخصية قتالية قادرة على اقتناص الفرص، فإذا كان سلفه من الرجال البدائيين يمشي بحذر ويترقب طريدته من الحيوانات ليصطادها، فإنه اليوم ذلك الرجل الذي لا يجعل الفرص تمر من أمامه هدرا.. فهو نبيه متيقظ كالصقر.. وكم لاحظنا وعايشنا من الرجال من طور هذه الغريزة العظيمة في نفسه وأحسنوا استثمار فترات هبوط الأسعار في المجالات المختلفة من الأنشطة التجارية، أو تنبهوا لموجات الطفرات الاقتصادية والثقافية والعلمية ولم يتأخروا أبدا في أخذ نصيبهم منها.. لقد كانوا قتاليين أذكياء.. لا تضيع الفرص المناسبة من أمامهم.
هذه إحدى ركائز الرجولة، وهي عند النقيض.. تجدهم أشخاصا لا طموح لهم، يتجنبون المنافسة، ويخافون خوض التجارب، يرضون بأي وضع يعيشونه ليس رضا القناعة وإنما رضا البلادة، لا يؤمنون بوضع أهداف يقاتلون من أجل تحقيقها، ولا يرون في الحياة ما يثير اهتمامهم غير الانشغال بالتوافه! وهذا لا شك نقص في الرجولة، وهو نقص أكثر من يلاحظه النساء، وهن ينفرن من هؤلاء الرجال، وإذا ارتبطوا بهم فإنهم لا يحترمونهم، ولا يشعرن بأن الحياة معهم يمكن أن تكون حياة ممتعة.
ثانيا: الحماية والرعاية
وهو أحد أهم أركان الرجولة السليمة، فالرجل بغريزته وفطرته الطبيعية يشعر باحتياج كبير بأن يكون مسؤولا عن حماية ورعاية أحد ما. قد يقول قائل إنه وللأسف ثمة انطفاء ملحوظ في عينة غير قليلة من الرجال لهذه الغريزة، لقد صاروا يتنصلون من مسؤولياتهم الأسرية والاجتماعية، وربما أصبحوا هم مصدر خطر لمن يعولون، يضايقونهم في أرزاقهم ويملؤون المنازل بالخوف والرعب والقلق والحرمان. أقول ليس الواقع اليوم هو المقياس، لعوامل واعتبارات كثيرة لم تكن موجودة في السابق كان لها دور في تشويه الهوية لدى الإنسان.
ولكن متى تنصل الرجل عن أحد أركان الرجولة والتي منها الرعاية والحماية فإنه قطعا إن عاجلا أو آجلا سيعاني، وستكون معاناته داخلية وربما سيصاب في فترة ما بالارتياب والقلق والاكتئاب وربما الهلوسة، والمؤلم أكثر أنه لن يعرف سبب هذه المعاناة النفسية، باعتبار أنه لا يدرك غريزته وفطرته الحقيقية وأثرها النفسي عندما لا يتم التواؤم معها بالشكل السليم. فالرجل منذ وجوده على خارطة الأرض كان ولا يزال أحد أهم أنشطته اليومية أن يحمي من يعول وأن يرعاهم وأن يوفر لهم الأمن والسند وأن يقاتل أي خطر يمكن أن يقترب منهم حتى لو افتدى بنفسه من أجل حمايتهم.. وفي حال غابت هذه الغريزة أو الفطرة فإن الرجولة تضمحل وتتلاشى مع الزمن، ويعقبها اعتلالات نفسية عميقة.
ثالثا: الجنس وملامح الرجولة
إن مفردة الجنس أحد أكثر المفردات التباسا وإشكالا في العديد من الثقافات وبالخصوص الثقافة العربية، إننا عبر مدى زمني طويل وللأسف ربطنا دون وعي مفردة الجنس بمفردة الزنى، فأصبحنا ذهنيا نتعامل مع مفردة الجنس كأننا نتعامل مع مفردة الزنى، ولكن الزنى أمر غير شرعي ومحرم ومدان في كل الثقافات ويعد في الإسلام كبيرة من كبائر الذنوب.. أما الجنس فهو موضوع آخر تماما، الجنس في ذاته عملية من أهم وأعظم احتياجات الإنسان للرجل كان أو المرأة، كما أنها عملية تحدث من حولنا في كل الكائنات بشكل دائم ومستمر ودون انقطاع، فالحيوانات والحشرات والنباتات والأزهار والأشجار كلها تمارس عملية الجنس بشكل يضمن سلامتها أولا، ومن ثم بقاءها وانتشارها وما يعقب ذلك من بناء لحياة كوكب الأرض بكافة جوانبه.
علينا أن ندرك هذه الحقيقة ولا نخشاها ولا نتعامل معها بالتجاهل أو الكبت؛ لأنها في لحظة من اللحظات ستسوق أي فرد حتى يفرغها في غير طريقها الصحيح.. انظر لأي شاب سواء كان من أسرة غنية أو أسرة فقيرة، سواء كان متخرجا من أعرق الجامعات العلمية العالمية أو أميا لم يدخل حتى المدرسة، سواء كان متدينا متمسكا بعقيدته أو شخصا لا يلتزم بالدين ولا يبالي به، سواء كان واعيا أو جاهلا، من أي ثقافة من أي شعب من أي دين.. ما أن يبلغ العشرينات وأول فكرة تحوم في رأسه وتصر عليه هي فكرة الزواج! ذلك أن الطاقة الجنسية لدى الرجل لها ارتباط وثيق وعميق بهويته ورجولته، والرجل الذي يفتقد الجنس في حياته إن عاجلا أو آجلا سينهار أو سيفقد جزءا من كينونته أو ستحاصره الآفات والعلل الجسدية والذهنية من كل مكان.
إن معظم العلل والأمراض الجسدية التي تهاجم الرجال اليوم بعد سن الخمسين يعود أهم أسبابها لفقدان الطاقة الجنسية وممارستها، ومن ينظر للتاريخ العربي والإسلامي سيجد أدلة واضحة ودامغة أن الأصل في حياة الرجل هو التعدد والاستثناء هو الاكتفاء بزوجة واحدة.
وهذا كان معمولا به إلى زمن قريب فقبل قرن من الزمان كان التعدد عرفا اجتماعيا لا يجادل فيه أحد. ذلك ببساطة لأنها طبيعة الرجولة، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن الرجل الذي يكتفي بزوجة واحدة ناقص الرجولة فهذا بطبيعة السياق ليس المقصود من الكلام، وإنما الرجل الذي لا يعدد عليه ألا يتوقف عن المعاشرة الزوجية وأن يمارسها بانتظام فهي طاقة رجولية يجب أن تجد مكانها المباح لتعمل وبالتالي تعود على حياة الرجل المعنوية والجسدية بالقوة والراحة. أو سيحصل ما نراه اليوم من تسرب هذه الطاقات لمنزلقات وعبث أخلاقي مدمر للرجل والمجتمع.
في ذات السياق لا ينحصر مفهوم الجنس على العملية الجنسية المباشرة وحدها فهي جزء من أجزاء تكوين كامل وتام وضعه الله في الرجل. ومن أهم ملامح هذا التكوين هو هيئة الرجل وشخصيته وملامحه وصوته وطريقة سيره والشعر الذي ينبت في وجهه واهتماماته الرجولية، ومن يقل إن هذه الملامح لا قيمة لها فهو واهم، ومن يحاربوا اليوم الفطرة السليمة للرجل يبدؤوا أولا بتغيير تلك الملامح إنها أول خطوة لتمزيق الهوية الرجولية، فيجعلون الرجل من خلال الموضة والدعاية يظهر في صورته وأدائه وملامحه وملابسه أبعد ما يكون عن ملامح الرجل.
إننا لو عدنا فقط بالزمن مئة عام فإنك لن تجد في أي شعب ولا أي ثقافة ولا أي مجتمع رجلا يخرج حاسر الرأس أو لا يربي شعر شاربه أو لحيته أو لا يتهندم بلباس الرجال فعند العرب كانت العمامة أو الغترة والعقال والبشت (العباءة العربية) ملابس يلبسها الرجال في كل وقت لم تكن مخصصة للمناسبات فقط، وعند الغرب كانت القبعات الطويلة وعند الأتراك والشام ومصر الطربوش والعمة، وفي الثقافات الأخرى الغبانة والقبعات والملابس التي يتزين بها الرجال على اختلاف شكلها وهيئتها كانت تدل على شيء واحد أن للرجل هيبة ومكانة وعليه ألا يخرج حاسر الرأس، وأن يتزين بالملابس التي تزيده قوة وهيبة ورجولة.
بالتأكيد لا أدعو لأن يعود هذا كله فهي دعوة قد تكون منافية للواقع، ولكن لا بد أن يعي الرجل تمام الوعي بأن الملامح الرجولية ركن أساسي من هويته التي عليه أن يلبي احتياجه لها باستمرار.
يمكن أن أقول أخيرا.. أن الإنسان مفطور على صفات معينة ومتى ما انساق لأوهام أو عادات غريبة تجعله يبتعد عن هويته الحقيقية، فإن ذلك أسوأ ما يمكن أن يفعله إنسان بنفسه.. إنها محاولة أشبه بأن ترى نمرا أو أسدا يريد أن يكون خروفا، أو ديكا يحاول أن يكون دجاجة، إن هذا أمر غير متصور في عالم الحيوان فكيف يمكن أن يتصور في عالم الإنسان؟!