الرأي

الدبلوماسية الدينية.. العيسى نموذجا

محمد علي الحسيني
أن تكون دبلوماسيا ليس أمرا هينا، فما بالك أن تكون دبلوماسيا دينيا، هي مهمة تواجه الكثير من التحديات في ظل التنوع والاختلاف بين الأديان، كما أن المسألة تحتاج إلى قدر كبير من الانفتاح والوعي والثقافة والدراية والعلم لاستيعاب هذا كله، وصحيح أننا تعودنا أن نتلقى الدبلوماسية السياسية بشكل عام وقد يشكل مصطلح الدبلوماسية الدينية استغرابا وجدلا لدى البعض واستحسانا لدى البعض الآخر، ولا شك أن مفهوم الدبلوماسية الدينية يحمل الكثير من المضامين الإيجابية، بل إن خير نموذج على ذلك هو معالي أمين عام رابطة العالم الإسلامي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى.

مفهوم الدبلوماسية الدينية وأهميتها

لم يكن استخدام مصطلح الدبلوماسية الدينية أمرا مألوفا من قبل، ولقد بدأ بالظهور لمواجهة ظاهرة التطرف الديني وتبعاته لوضع حد للتحديات الخطيرة التي واجهت العالم الإسلامي خصوصا عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 التي قلبت العالم وازداد التوتر والكلام عن حرب بين الإسلام والكفر، فسادت حالة من الفوضى والمخاوف من هول تلك الأحداث واستخدامها سياسيا عبر واجهة دينية وإعادة إحياء نظرية صامويل هنتغنتون «صدام الحضارات»، وبدأت حملة التأجيج ضد المسلمين وربط الإرهاب بهم وبدينهم، خصوصا أن هناك عمليات إرهابية قد نفذت في مختلف مناطق العالم على يد منظمات «إسلامية» تدعي أنها تقوم بواجب «الجهاد» باسم الإسلام ونيابة عن الأمة كلها، فخلقت هذه الجماعات والمنظمات بلبلة وانقساما على مستوى العالم الإسلامي، ولكن الوعي الكبير لدى العلماء الربانيين وولاة أمر المسلمين تفطنوا لذلك وعملوا ليلا ونهارا لمواجهة هذه الجماعات وكشف وجهها الكنيف وإظهار خطورتها على الإسلام والمسلمين أولا وقبل غيرهم؛ لأنها شوهت الصورة المشرقة لهذا الدين الحنيف وصورته على أنه دين الإرهاب والقتل.

ومن هنا انطلق العلماء الأخيار للتصدي لخط التطرف وخطاب الكراهية من جهة ومواجهة ظاهرة الإسلاموفوبيا من جهة أخرى، فكانت المسؤولية كبيرة والعبء ثقيلا، وازدادت الأمور سوءا مع الحالة التي عاشتها المنطقة العربية عقب أحداث ما سمي بـ»الربيع العربي» التي شهدت تنامي المنظمات الإرهابية التي تدعي انتماءها إلى الإسلام وتقوم باستهداف المسلمين والمسيحيين واليهود على حد سواء، فلا أحد سلم منهم ولقد رأينا ذلك جليا، ما استدعى الأمر إلى ضرورة نهج سبيل الدبلوماسية الدينية عبر تفعيل آليات الحوار بين مختلف الأديان والمذاهب ودفع عجلة التعايش والانفتاح بينها لتحقيق الأمن والاستقرار بين الشعوب والأمم.

في ظل التحديات والأزمات.. العيسى رائد الدبلوماسية الدينية

رغم خطورة الوضع وحساسيته ودقته إلا أن ذلك لم يثن رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه أن يقوموا بواجبهم بكل شجاعة وإيمان عبر كلمة المحبة ونشر قيم الإسلام السمحة ومبادئه القائمة على روح التسامح بين البشر، وعلى رأسهم الدكتور محمد عبدالكريم العيسى الذي يشغل منصب أمين عام رابطة العالم الإسلامي منذ عام 2016، وقد أدرك أنه أمام مسؤولية ليست بالسهلة، لكن نزعته الإنسانية وعقيدته الإسلامية دفعتاه ليتحملها بكل ثقة وإخلاص ويقين وأنه سيؤدي واجبه على أكمل وجه وهو عند حسن ظن المؤمنين به، ولا يتوانى عن تفعيل الدبلوماسية الدينية باعتبارها المسلك الوحيد لإعادة العلاقات الصحية بين أتباع الأديان والمذاهب الإسلامية فسخر الوقت والجهد والعمل والكلمة خدمة للهدف الأسمى الذي يسعى لتحقيقه بكل فخر ومحبة وهو التعايش والانفتاح الديني بتفعيل آليات الحوار وبناء جسور التواصل البناء بين أتباع الأديان والمذاهب الإسلامية.

ومن مواقفه النيرة كلمته في أسبوع الأمم المتحدة للوئام بين الثقافات والأديان عام 2016 التي أكد فيها بأنه بالوعي والمحبة سنهزم التطرف والعنف والكراهية وننشر قيم التسامح والتعايش، ولمواجهة خطاب الكراهية والمتطرفين أكد أن الإسلام براء من أعمالهم بل دعا علماء الأمة خلال مؤتمر «التعايش الاجتماعي وتنوع الديانات» في ديربن بجنوب إفريقيا عام 2017 إلى أهمية التأكيد بأن الإسلام حث على التحلي بقيم التسامح والتعايش واحترام الكرامة الإنسانية، إضافة إلى زيارته التاريخية لمواقع الإبادة في البوسنة والهرسك وأوشفيتز التي أكد فيها بأن الإسلام دين عدالة بقيم ثابتة لا تزدوج معاييرها برفض وتجريم تلك الفظائع الوحشية.

كما أن معاليه سطر إنجازا عظيما في تاريخ الدبلوماسية الدينية من خلال عدة مؤتمرات عالمية من بينها مؤتمر «وثيقة مكة المكرمة» للتأكيد أن المسلمين جزء فعال في هذا العالم يعملون لتحقيق المصالح المشتركة في الخير والسلام لكل البشرية، إضافة إلى ملتقى القيم المشتركة بين أتباع الأديان المنعقد بالرياض الذي شكل نقطة تحول تاريخية في التواصل بين العلماء المسلمين والقيادات الدينية الأخرى.

ونظرا لإنجازاته العظيمة في تاريخ الدبلوماسية الدينية فقد أشاد العالم كله بجهود العيسى وفضائله وفيه قال الحاخام مارك شناير: «أصبح العيسى يرمز إلى المملكة العربية السعودية الجديدة التي انتقلت بجرأة إلى طليعة الجهود المبذولة لإرساء التفاهم والتعايش السلمي والشراكات بين أديان العالم وثقافاته وشعوبه المختلفة»، لذلك فإننا جميعا بحاجة إلى مثل حكمة وقيادة معالي الدكتور العيسى الذي قال فيه راسل نيلسون رئيس يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة: «أنت صانع سلام، أنت باني الجسور، ونحن بحاجة إلى المزيد من القادة مثلك».