الرأي

التقارب التركي السوري

صهيب الصالح
تمر العلاقات التركية السورية منذ نوفمبر الماضي بانعطافة كبيرة يمكن اعتبارها خارجة عن سياق السياسة التركية تجاه سوريا، فبعدما كانت قوى الائتلاف السوري المعارض، ولأكثر من عقد كامل، هي الفاعل الرئيس الذي يحقق الأهداف التركية في الداخل السوري، وينتشر في مناطق نفوذ تركية؛ صرح الرئيس التركي برغبة بلاده في تطبيع العلاقات مع النظام السوري، ورسم في تصريحات لاحقة مسارا لعملية التطبيع من خلال مرورها بثلاث مراحل، بدأت مرحلتها الأولى بالفعل في موسكو في الأيام القليلة الماضية بعدما اجتمع وزراء الدفاع في الدولتين برعاية نظيرهم الروسي، وستكون المرحلة التالية هي لقاء على المستوى الدبلوماسي بينما ستتوج هذه الانعطافة بلقاء على مستوى القمة في منتصف العام الجاري، أي أن الرئيس التركي ينوي لقاء نظيره السوري قبيل موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية في تركيا، وهو ما يعني أن الدافع التركي وراء التقارب مع سوريا هو تحييد المعارضة التركية عن الوصول إلى السلطة، بينما قد ترغب سوريا بأن تكون هذه خطوة نحو حلحلة الأزمة وتقليل عدد أطراف الحرب الأهلية وإنهاء النفوذ الأجنبي.

إن تحديد الدافع التركي من وراء هذا التقارب مع سوريا لا يمكن أن يفهم من دون الوقوف على القضايا التي تثيرها المعارضة التركية، التي يمكن اعتبارها في أوج حالات ضغطها في تاريخ حكم حزب العدالة والتنمية الممتد منذ 20 عاما؛ كونها استطاعت في الانتخابات البلدية الأخيرة الوصول إلى أهم ثلاث مدن، منها العاصمة أنقرة، واستطاعت أيضا أن تتشكل من ستة أحزاب بخلفيات متنوعة من اليسار والقوميين والليبراليين والمحسوبين على تيارات الإسلام السياسي، وعلى اعتبار أن بعض هذه الأحزاب قومية متطرفة مثل «حزب النصر» حديث التأسيس؛ يمكن القول بأن ملف إعادة المهاجرين هو أحد أكثر الأجندات الضاغطة على الحزب الحاكم قبيل الانتخابات، خاصة مع تراجع الاقتصاد التركي، ووفقا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فإن أكثر من 3.6 ملايين مهاجر سوري مسجل رسميا في تركيا يقيم أكثر من 98% منهم في المدن، ما يعني أن هناك إشكالا مزدوجا يواجه توفير الفرص المتكافئة في التعليم والوظائف والخدمات الاجتماعية، وبالتالي قد تسهم هذه العوامل مجتمعة في توسيع القواعد الشعبية للمعارضة التركية إذا لم يكن للحزب الحاكم سياسات عملية فعالة في احتواء تلك الأجندة، خاصة وأنه يعمل من مواقع في السلطة تتيح له أن يكون فاعلا بأدوات أكثر من المعارضة.

وعلى الجانب الآخر فقد شنت تركيا خمس عمليات عسكرية منذ 2016، كانت كلها موجهة ضد العرقية الكردية، واستهدفت ثلاث عمليات منها الأكراد في سوريا وهي عمليات: درع الفرات، وغصن الزيتون، ونبع السلام، وأضيفت لها عملية «المخلب-السيف» المزدوجة ضد أكراد سوريا والعراق نهاية العام الماضي، وتخللت هذه العمليات مشاركة ما يزيد عن 25 ألف مجند من قوى الائتلاف السوري المعارض في العمليات القتالية وبسط النفوذ التركي على معظم الشريط الحدودي، وهو الشريط الذي يصطدم بإدارة التحالف الكردي المعروف بـ»قوات سوريا الديمقراطية» المدعوم من الولايات المتحدة والساعي إلى إقامة كيان كردي مستقل بحكم ذاتي، وفي الوقت عينه يقيم الأكراد والنظام السوري حصارا متبادلا لا يخلو من المواجهات المسلحة العنيفة، ويبدو أن الأكراد هم نقطة الالتقاء التي تراهن عليها تركيا في محادثاتها مع النظام السوري، وهم أيضا المحرك الأول للسياسات التركية تجاه سوريا وليس الائتلاف المعارض، لكن النظام السوري بالطبع يرغب في إخضاع مناطق النفوذ الكردية إلى سيطرته وجعل إنهاء الوجود الأجنبي غير الحليف أساسا لأي محادثات، ويتضح ذلك من البيان الرئاسي الذي أصدره بشار الأسد الخميس الماضي ردا على خطوات أنقرة، وشدد فيه على أن التقارب مع تركيا يجب أن يهدف إلى «إنهاء احتلال» أنقرة لأجزاء من سوريا، وهو ما يعني أن السيطرة على هذه المنطقة ستكون إحدى أصعب نقاط الخلاف في المحادثات المحتملة بين تركيا والنظام السوري؛ خاصة وأن قطاعا واسعا من هذه المناطق هي بالفعل تحت النفوذ الأمريكي.

وقد لا يتوج التقارب التركي السوري بتطبيع كامل للعلاقات بين البلدين، فالحزب الحاكم في تركيا يسابق الزمن لمواجهة الأعباء الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي عكستها سياساته وتدخلاته العسكرية من خلال الانعطافة نحو البرغماتية النفعية؛ لرفع الضغط المتزايد أولا من المعارضة التركية، وللبقاء في السلطة أطول وقت ممكن، كما أنه لن يسهم في إنهاء الحرب الأهلية في سوريا طالما كانت هناك أطراف دولية أخرى، مثل الولايات المتحدة، ما زالت متمسكة بمطلبية إسقاط نظام الأسد بحجة أنه نظام وحشي ارتكب جرائم حرب، وطالما أنه لن يكتسب من محادثاته وتقاربه شرعية لتدخلاته العسكرية نظرا لتمسك النظام السوري بإنهاء الوجود الأجنبي، لكن إذا ما نجحت العلاقات التركية السورية في العودة إلى طبيعتها فقد تتشجع الكثير من الدول العربية على الإيمان بفرضية إنهاء الحرب الأهلية في سوريا من خلال النظر إلى حكم الأمر الواقع وقياس احتمالية تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي 2245 بعد ذلك، خاصة بعد التعقيد الذي طال الأزمة السورية وأطرافها المتعددة؛ فإدانة الوحشية وجرائم الحرب وجهة نظر إنسانية جديرة بالاهتمام، لكن إنهاءها بالوسيلة الوحيدة المتبقية أمام المجتمع الدولي يمكن أن تكون وجهة نظر أكثر إنسانية.

9oba_91@