الرأي

مؤثرات جديدة في العلاقات الدولية

سالم الكتبي
بعد نحو عام من اندلاعها في فبراير عام 2022، لم يعد العالم كما كان قبل حرب أوكرانيا، وانتقلت التوقعات القائلة بأن تفشي جائحة «كورونا» سيرسم نظاما عالميا جديدا، إلى دائرة الواقع واكتسبت مصداقية أكبر، بل انتقلت إلى دائرة التنفيذ على أرض الواقع، حيث تشهد مناطق عدة من العالم إعادة تموضع استراتيجي جديدة بفعل ما أنتجته الحرب الدائرة في أوكرانيا من معطيات جديدة بدأت بالفعل في رسم ملامح نظام ما بعد أوكرانيا.

في ملفات عدة يمكن ملاحظة التحولات الاستراتيجية باتجاه صياغة أسس النظام العالمي الجديد، وفي مقدمة هذه الملفات العلاقة بين أكبر متنافسين على النفوذ والهيمنة عالميا سواء في إطار صيغة قيادة ثنائية أو تعددية أو حتى صيغة انفرادية رغم استبعاد هذه الفرضية نسبيا، وهما الصين والولايات المتحدة الأمريكية.

ورغم الانفراج الذي أوحت به نتائج القمة التي عقدها الرئيس بايدن مع نظيره الصيني شي جينبينغ على هامش قمة مجموعة العشرين في إندونيسيا في نوفمبر الماضي، فإن الواقع يشير إلى تصميم الصين على استعادة تايوان، حيث نفذت مؤخرا واحدة من أكبر عمليات الانتشار العسكري في محيط الجزيرة، جوا وبحرا، حيث دخلت نحو 71 طائرة صينية مقاتلة ومسيّرة منطقة الدفاع الجوي التايوانية الخاصة، وأكدت بكين أنها أجرت «تدريبات هجومية» حول تايوان ردا على ما قالت إنه استفزازات من جانب الجزيرة والولايات المتحدة.

هذه التحركات الصينية تعكس تصميم بكين على تحدي النفوذ الأمريكي فيما يخص تايوان تحديدا، حيث يلاحظ انتقال السلوك الصيني من الرفض والإدانات إلى تبني تحركات عسكرية فعلية في ما تستشعر أنه دعما أمريكيا متزايدا لتايوان، وذلك بهدف ترسيخ فكرة تمسك الصين باستعادة الجزيرة حتى لو اضطرت للسيناريو العسكري، الذي لا يبدو مطروحا في المدى المنظور ولكن بكين تريد دائما التأكيد على أن احتماليته تبقى قائمة بدرجة عالية. وخلاصة هذه النقطة أن الصين لم تعد تفضل مربع رد الفعل في إدارة علاقاتها مع الولايات المتحدة، بل باتت تركز على المبادأة والإمساك بزمام المبادرة بما يتوفق مع مصالحها ومع ضمان الحد الأقصى من الحذر الذي يجنبها خوض مواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة.

في إطار تحولات الواقع الاستراتيجي العالمي تبعا لتأثيرات حرب أوكرانيا، يمكن ملاحظة الصعود القوي لمؤثرين جدد في النظام العالمي المقبل، حيث برزت كتلة دولية جديدة لم تتبلور ملامحها مؤسسيا بعد وتضم الدول التي رفضت الانحياز للغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، أو روسيا في الحرب الدائرة في أوكرانيا، وهي ما تتعلق بقوى الوسط التي تضم شريحة عريضة من الدول ومن بينها دول مجلس التعاون الخليجي ذات الثقل الاقتصادي والاستراتيجي، والتي يتنامى دورها في صناعة القرار العالمي بشكل واضح.

هناك صعود ملحوظ لأدوار المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات وتركيا والهند، التي يعتبرها الكثيرون الرابح الأكبر استراتيجيا من الحرب الدائرة في أوكرانيا، حيث قامت أنقرة بمناورات سياسية عدة حققت من خلالها مكاسب عديدة لمصلحتها، ولاسيما في القضايا وثيقة الصلة بالأمن القومي التركي مثل الملف السوري، وكان لافتا أن تركيا عضو حلف «الناتو» لم تنضم للعقوبات الغربية التي فرضتها دول الحلف على روسيا بسبب الحرب، وباتت أنقرة أحد الأطراف الدولية المرشحة لحلحلة أي جهود للوساطة في الأزمة، حيث بدأت ممارسة هذا الدور بالفعل من خلال وساطتها في استئناف تنفيذ اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود. هناك أيضا دور متصاعد للمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات في ملف الطاقة عالميا، وهو دور يترجم إلى ثقل ووزن استراتيجي يضاف لمكانة البلدين وقدرتهما على التأثير في صناعة القرار الدولي.

بلا شك إن حرب أوكرانيا سيكون لها تأثيرات استراتيجية لا تقل عن تأثيرات الحرب العالمية الثانية، لاسيما أن هذه الحرب لا تزال بعيدة عن سيناريو النهاية، فضلا عن أن هذه السيناريو ذاته سيكون له دور بارز في صياغة أي نظام عالمي جديد، سواء بخروج روسيا رابحة استراتيجيا أو العكس، ففي كل الأحوال سيكون مشهد الختام مقدمة لتدشين نظام ما بعد أوكرانيا، الذي بدأت ملامحه تلوح في الأفق بظهور كتلة دولية ثالثة، ولكنها لن تكون هذه المرة كتلة عدم انحياز كما كان الحال خلال حقبة الحرب الباردة، بل ستكون كتلة أكثر فاعلية وتأثيرا في مجريات الأحداث خلال السنوات والعقود المقبلة.

drsalemalketbi@