الرأي

المسار الخليجي بين الأمن والتنمية

صهيب الصالح
دخلت دول الخليج العربي عامها الجديد على أفق متسعة لزيادة الدور الوازن في المنطقة، ورفع حالة الحضور والتأثير على المستوى الدولي، في الوقت الذي يعاد فيه تشكيل النظام الدولي، ويبدو أن دول الخليج قد شرعت - منذ اتفاق العلا - في إعادة صياغة الأهداف المشتركة والأدوار، على المستويين الدولي والإقليمي، بما يخدم تعاظم أهميتها، فحرصت على ضرورة أن تصل وجهات نظرها إلى مناطق النزاعات، بما يمكنها من إبداء الرأي في توجيه الحلول نحو المسارات الممكنة وفق مصالح الخليج والمنطقة، واستندت إلى العامل التنموي المستدام بالدرجة الأولى، باعتباره الأداة الأكثر مقدرة على ثني المسارات السياسية في المنطقة عن التقاطع مع مصالح المسار الخليجي، وشكلت مقاربتها على أساس مواجهة مصادر التهديد خلال تمثيل مركزية الثقل الإقليمي الذي يحتم تنويع الشراكات وتوازنها، وهذا المسار لم يكن ليتأتى لولا برنامج عمل مضن للسياسة السعودية وأجهزتها الأمنية.

فمما ساعد دول الخليج على أن تصل إلى هذا المسار، هو مجابهة السعودية للمهددات المادية وغير المادية العابرة للحدود، التي اشتعلت متتالية منذ 2001، متمثلة في النشاطات الإرهابية المتعددة، والصراعات الطائفية، ودعوات الفوضى والعنف والتخريب التي تلبست بطابع عبر وطني. فتنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي ـ على سبيل المثال ـ حاله كحال تنظيمي داعش والقاعدة الإرهابيين من حيث تعدد جنسيات تابعيه ومنظريه، ومن حيث توسع نشاطه وعمله عبر الحدود كافة؛ لذا لم تكن دعوات الفوضى والعنف محصورة في مستوى محلي محدد فقط. والنجاح السعودي في محاصرة جميع هذه المهددات، رغم تنوع خصائصها ما بين سيكولوجية تبث الرعب والخوف في الجماعات المستهدفة، كما كان يعمل تنظيم داعش، وأخرى بخصائص اجتماعية تحفز الحنق من الفقر والحرمان والإحباط، كما كانت وسيلة تنظيم الإخوان، ما يعني أن مركزية الدور السعودي في خلق مناخ سياسي وأمني مواتٍ من حيث الجوانب البنائية، يكفي لأن تركز دول الخليج الأخرى على النمو الاقتصادي وجذب رؤوس الأموال، فأصبحت تمتلك احتياطات هائلة من النفط والغاز، تمثل ثلث المخزون العالمي المؤكد بلغ 1.55 تريليون برميل، وتستحوذ على مجموعة من أكبر صناديق الثروة والأذرع الاستثمارية، تحتل 5 منها مراتب متقدمة في سلم أضخم 10 صناديق سيادية في العالم.

وغير خفي عن أنظار المراقبين، أن السعودية احتضنت في النصف الأخير من العام الماضي قمتي جدة والرياض، التي جمعت أكبر قوتين دوليتين متصارعتين في الوقت الراهن، هما الولايات المتحدة والصين، وركزت كلتا القمتين على التنمية كعامل مهم للدفع بالعلاقات بين الأقطاب الدولية ودول المنطقة نحو التوازن وفق حسابات المصالح المشتركة، وإن كانت قمة جدة قد حملت بعدا أمنيا يتساءل عن إشكالية الأمن الإقليمي، وظهرت حينها تكهنات تزعم إنشاء «ناتو» يواجه المعضلة الأمنية في الإقليم؛ إلا أنها في الوقت ذاته لم تسلم إلى الحلول الخارجية وحدها، حيث استمرت الرسائل السعودية في دعوة إيران إلى الانخراط في منظومة الدول الإقليمية الطبيعية والابتعاد عن فكرة الثورة، كما استمرت سلطنة عمان كلاعب مهم في ملف الوساطة اليمنية، ونفترض أن البحرين والإمارات ستلعبان أدوارا أكثر حيوية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ خاصة بعد تشكيل حكومة إسرائيلية من اليمين المتطرف، والذي يجمع هذه العناصر هو العمل السياسي الجاد بعيدا عن الانخراط في أحلاف أمنية وعسكرية قد تشعل المنطقة أكثر.

وعلى الرغم من أن قمة الولايات المتحدة قد سبقت القمة الصينية بنحو 5 أشهر، إلا أن الولايات المتحدة تحسست خطأها الاستراتيجي مبكرا، والمتمثل في الابتعاد التدريجي عن المنطقة، وتوجيه كل أدواتها نحو جنوب شرق آسيا في صراعها مع الصين، لذا ذكر الرئيس الأمريكي بأن بلاده لن تغادر الشرق الأوسط وتترك فراغا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران.

وإذا ما عدنا إلى النسق الأمريكي في التعاطي مع دول المنطقة قبل تلك الزيارة، سنجد أنه تشكل من الاستعلاء والتهميش المتعمد لمصالح دول الخليج، وسنجد أيضا أن الولايات المتحدة قد نسيت أن هناك دائما جزرة في مقابل العصا التي كانت تلوح بها دائما، وهذا ما عزز من حضور الصين في المنطقة إلى درجة جعل منها الشريك التجاري الأكبر لدول الخليج، مما يدلل على أن العامل التنموي هو الدافع الأبرز لحماية المصالح، وبناء الشراكات وفق المنظور الخليجي، وبالتالي اتضح أن دول الخليج تسعى من خلاله إلى تحفيز حالة الاستقرار والأمن في المنطقة، التي بدورها ستساعد الاقتصادات والأسواق الخليجية على النمو بوتيرة أسرع، وتتيح الفرص أيضا أمام الأسواق المجاورة، لتلعب دورا مركزيا في تجسير العلاقات مع بقية الأطراف الإقليمية والأقطاب الدولية.

إن ما تحظى به دول الخليج من موارد ومزايا جغرافية واقتصاد تنافسي ومرن يؤهلها إلى أن تزيد من حجم تأثيرها الدولي، ويرفع من ثقلها في ميزان القوى الإقليمي إلى درجة يجعلها في المركز منه، ولا سيما السعودية، وهي في الوقت نفسه تقع في المركز أيضا من مناطق عدم الاستقرار؛ لذا يبدو من الواضح أن المسار الخليجي سيحافظ على تنويع الشراكات وتوازنها في الوقت الذي سيواظب فيه على مد جسور التواصل مع تكتلات أخرى، مثل منظمتي بريكس وشنغهاي ودول الآسيان والهند والدول اللاتينية، وقد يكون الاتحاد الأوروبي بدرجة أقل عودا على بروز الفجوة في التصورات حول مستقبل النظام الدولي، التي أفرزت تراجعا في علاقات التعاون لدى الدول الليبرالية، في مقابل تركيزها على حصد مناطق نفوذ أكثر.

9oba_91@