الرأي

العناوين السياسية على طاولة العام الجديد

صهيب الصالح
داهمنا اليوم عام جديد دون أن ينهي الكثير من الأزمات التي أشعلها سلفه عام 2022، وإن كان من عنوان جامع وملخص لمعظم الأحداث الكبرى والمفصلية في العام المكتمل فسيشير بالتأكيد إلى ناحية الإخفاقات.

فعلى المستوى الدولي لم تُصب الولايات المتحدة في مقاربتها لإحكام قبضتها على تداعي النظام الدولي الذي أسسته، كما خابت مساعي أطراف الأزمة الأوكرانية في حسم المعركة على الأرض لصالحها أو حتى في تجهيز طاولة المفاوضات، ولم تظفر دول الاتحاد الأوروبي بالتحوط اللازم في ملف الطاقة هذا الشتاء بعد نظام العقوبات غير المسبوق ضد روسيا.

أما في المنطقة، فلم تفلح إيران -حتى الآن- في مواجهة الاحتجاجات الداخلية العنيفة، إلى جانب فشلها في التوصل إلى اتفاق نووي يتيح لها تدفقا نقديا، وحركة أكثر مرونة في الاقتصاد العالمي، كما سقطت لبنان في اختبار انتخاب رئيس للجمهورية، بعد سلسلة طويلة من الإخفاقات السياسية والاقتصادية والمالية المتتالية طوال العام المنصرم.

وفيما لم تحرز حكومتا العراق تقدما في صون سيادتها أمام التدخلات العسكرية الإيرانية والتركية، أخفقت مرة أخرى في توافق سياسي لا يعير الإرادة الخارجية اهتماما في ملف الحكومة وتشكيلها، وأمام هذا الحصاد الهائل من الإخفاقات، تطل استحقاقات سياسية في العام الجديد من شأنها تبديل قواعد اللعبة في أكثر من ناحية، سيكون بعضها شائكا ومتشابكا بما يكفي لأن ينشغل العالم بهذا البعض عن غيره، فيركز حينها على السبب ولا يخطر في باله أن يتعامل مع المسببات.

وبداية مع منطقتنا، فبعدما فاز حزب الليكود الإسرائيلي المحافظ بزعامة بنيامين نتانياهو مع شركائه من الأحزاب الدينية القومية المتطرفة، واستطاع تجاوز عقبة تشكيل الحكومة بعد مفاوضات تعطلت كثيرا، على اعتبار أن سيطرة اليمين المتطرف على نتائج الانتخابات، كانت فرصة تاريخية قد لا تتكرر إذا ما ذهب الإسرائيليون إلى انتخابات جديدة هذا العام، ما يؤهل هذه الحكومة إلى أن تشكل تحالفا بدرجة عالية من التماسك أمام الكنيست، رغم الاختلافات الجوهرية بين أطراف هذا التحالف في ملفات متعددة، وأهمهما بطبيعة الحال ما يتعلق بالأمن الداخلي، وهذا التماسك والتقارب الأيديولوجي سيؤدي بهذه الحكومة إلى إحكام القبضة الأمنية والعسكرية، بما ينذر بأهليتها في توسيع حركات الاستيطان في الجليل والنقب والضفة الغربية، وإلى زيادة مستوى الاستعداد لمجابهة إيران التي تشير التوقعات إلى أنها ستعمل قريبا على تخصيب اليورانيوم إلى مستوى 90% بما يؤهلها لتصنيع قنبلة نووية.

لذا، قد تستمر حالة «العمليات ما بين الحروب» التي بدأت منذ سنوات سواء على الأرض السورية أم في العمق الإيراني.

أما في تركيا، فقد ابتدأ تنافس محتدم بين شعارين هما: «قرن تركيا» المعبر عن رؤية الحزب الحاكم وحليفه حزب الحركة القومية، وشعار «تركيا الغد» المعبر عن رؤية المعارضة التركية التي تشكلت من ستة أحزاب بخلفيات متنوعة من اليسار والقوميين والليبراليين والمحسوبين على تيارات الإسلام السياسي، وسيستمر هذا التنافس وينعكس على السياسة الخارجية التركية في بعديها الدبلوماسي والعسكري إلى حد الاقتراب من تصفير المشاكل، بما في ذلك التدخل التركي في سوريا، حتى موعد الانتخابات في يونيو 2023، وقد أخذ هذا التنافس طابعا صراعيا، كونه يعبر عن رؤيتين مختلفتين ظهرتا جليا، بعدما كشفت المعارضة التركية عن مسودة دستور، وأكدت أنها ستعمل على تمريره بعد الفوز في الانتخابات، وهذه المسودة لم تناقش بنودا فرعية ولم تستهدف أيضا إعادة الوضع كما كان قبل عام 2016، بل عملت على إعادة صياغة الأصول السياسية للنظام وصلاحيات الرئيس المقبل، وطبيعة علاقاته بالأحزاب وتحديد صلاحياته بفترة رئاسية واحدة لمدة سبع سنوات، ورغم ذلك لم تتفق أطراف المعارضة -حتى الآن- على اسم مرشح توافقي ينافس إردوغان، وإن كان الأقرب أن يقع الاختيار على زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كلشدار أوغلو، وعلى اعتبار تشكيل المعارضة من تيارات سياسية متناقضة، وتقديمها مسودة دستور تمحور هاجسها حول نزع سلطات الرئيس يمكن ترجيح كفة الحزب الحاكم في هذا الصراع.

وقد وثب لبنان إلى العام الجديد ساحبا معه ذروة فشله المتمثل في الشغور الرئاسي، وحكومة بمواصفات دون مستوى التعيير، ومجلس نيابي هزيل لم يستطع انتخاب رئيس في عشر جلسات كاملة، فكان أمام انسداد في الأفق الاقتصادي والنقدي مدعوم بانهيار متواصل لليرة أمام الدولار، إذ اعتلى سعر الدولار الواحد إلى أكثر من 46 ألف ليرة، مما ينبئ باستمرار حالة الهرطقة السياسية والتأزيم الفوضوي من كل التيارات السياسية في لبنان، إلى حين وصول خرق جاد لفشل الدولة هذا من أطراف دولية مؤثرة، مثل الولايات المتحدة، من شأنه أن يدفع بالاستحقاقات الدستورية إلى منصة التسويات، ليفتح المجال أمام آمال التعافي، خاصة أن المسألة ستحدد مصير المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على برنامج مساعدات تراوح قيمته بين 3 و4 مليارات دولار.

ويبدو أن الولايات المتحدة لم تدرج في قوائم أولوياتها الخارجية اسم لبنان؛ لضلوعها في أزمات كبرى تؤكد عجزها عن الحفاظ على النظام الدولي، ولا أعني هنا الحرب الروسية الأوكرانية، رغم تجسيدها الجلي لهذا العجز، وإنما أعني ما قامت به اليابان من أكبر مراجعة لسياساتها الدفاعية منذ الحرب العالمية الثانية، إذ بدلت عقيدتها العسكرية، وضاعفت إنفاقها الدفاعي السنوي من نسبة 1% من إجمالي الناتج المحلي السنوي -الذي يتجاوز 4 تريليونات دولار- إلى نسبة 2% منه خلال السنوات الخمس المقبلة، ما يعني إمكانية تجاوز إنفاقها العسكري دولا مثل روسيا والهند وبريطانيا وفرنسا، ويرشحها هذا الإنفاق إلى أن تصبح ثالث دولة في سلم الإنفاق العسكري بعد الولايات المتحدة والصين، وهذا الترتيب يشير إلى أن خطوة اليابان هذه مدفوعة بمخاوف أمنية شديدة من الصين، معطوفة على اهتزاز الثقة بمسؤولية الحليف الأمريكي التي ارتضاها لنفسه منذ 1945، خاصة أن عددا يراوح بين 45-50 ألف جندي أمريكي يقيمون في اليابان، لم يكن كافيا لإقناع اليابان بعدم الاعتماد على نفسها، وتعظيم قدراتها العسكرية، ويعزز هذا التفسير استهداف اليابان الحصول على طائرات مقاتلة من الجيل الخامس، وصواريخ هجومية، أو كما تحب أن تصفها بـ«الدفاع المضاد»، التي يصل مداها إلى حوالي 1600 كلم، وهي راهنا لا تمتلك سوى صواريخ دفاعية قصيرة المدى تصل إلى 200 كلم فقط.

ومحصلة القراءة الأولية لهذه العناوين السياسية، هي أن المنطقة ستحافظ على درجة كبيرة من الوضع الراهن، ولن تصل إلى مستوى الاختلال الفعلي في موازين القوى بين الفواعل الرئيسة إذا ما اعتمدت على سياسة الصبر الاستراتيجي، لكن الوجود الأمريكي في المنطقة سيكون فاعليته أقل زخما، مع تحوط هذه الفواعل خلال توسيع علاقاتها مع الصين وروسيا.

أما على المستوى الدولي، فستتعدد مسارات الأزمات الكبرى من أوكرانيا غربا إلى بحري الصين واليابان شرقا، وقد تؤثر وجهات النظر في التعامل مع تلك المسارات على العلاقات عبر الأطلسي، عندما تضطر أطرافها إلى الاختيار بين الولايات المتحدة أو الصين، وربما ستؤثر أيضا على مكانة الدولار في التجارة الدولية، ويخلخل اتفاقية بريتون وودز، وبالتالي قد نشهد هذا العام تضعضعا أكثر وضوحا في الهيمنة الأمريكية.

9oba_91@