الرأي

مبادلة التطلعات بين الصين والدول العربية

صهيب الصالح
يمكن اعتبار انعقاد القمة العربية الصينية للتعاون والتنمية في الرياض مدخلا تاريخيا جديدا ومنعطفا آخر في حقل العلاقات الدولية، وبيانها الختامي بما حمله من نقاط مركزية وصريحة في كثير من جوانب العلاقات الدولية، وليس حكرا على العلاقات البينية مع الصين، يدلل على تاريخية القمة بامتياز، لذا فإن القمة وبيانها الختامي يستحقان ـ أيضا ـ الوقوف عليها وقوفا فاحصا وكاشفا يحثنا على الاستمرار في البحث عن تفسيرات لتاريخيتها. وبالطبع سيكون من المهم أولا هو محاولة فهم التطلعات الصينية من العالم العربي من ناحية، والتطلعات العربية من الناحية الأخرى من مكاسب مرجوة من وراء سور الصين وأسبابهما؛ فتشريع الأبواب أمام إقامة علاقات استراتيجية شاملة مع الصين في منطقة يتزعزع فيها النفوذ الأمريكي، يحيل المحللين مباشرة إلى قولبة الحجة في إطار سد الفراغ الإقليمي ليس إلا، لكن ما وراء هذا الفراغ هو تطلعات بالغة الأهمية لكل أطراف القمة.

فمن حيث الصين، فقد أظهر تقرير «آفاق الاقتصاد العالمي» الصادر عن صندوق النقد الدولي، أن النمو الصيني قد اندفع إلى معدلات كبح تدنى فيها النمو ليبلغ نحو 3.3% هذا العام، وهو أبطأ معدل نمو للصين منذ أكثر من أربعة عقود - باستثناء فترة الجائحة - وأعاد التقرير أسباب هذا التراجع إلى إجراءات الإغلاق العام في الصين، وزيادة عمق الأزمة العقارية، لذا فإن من أولويات الصين الاستراتيجية في هذه المرحلة هي أن تثابر للمحافظة على معدلات النمو وتطمئن على استمرارها خلال عوامل عدة، وهي عوامل تتطلع إليها الدول الخليجية والعربية في الوقت نفسه، وأولها يكمن في ضمان تدفق الموارد الطبيعية باتجاه الصين، خاصة النفط الخام باعتبار الصين أكبر مستورد سنوي له منذ 2017، وهذا الهدف محفوف بمخاطر تتخوف منها الصين، على اعتبار أن هيمنة الدولار على أسواق الطاقة يمكن استخدامها سلاحا عقابيا في حالة التنافس مع الولايات المتحدة، كما ظهر في الحرب الروسية الأوكرانية، لذا فإن الصين تستهدف أيضا القفز على الطبيعة الكمية لمعدلات النمو، لتستدخل مدخلات كيفية تناقش استخدام العملة الصينية وتسعّر الطاقة خلالها.

أما بقية عوامل النمو الاقتصادي للصين، فهي ما تتطلع إليه الدول العربية أكثر، إذ إنها تمتلك موارد بشرية هائلة لا تضاهى في أي مكان آخر من العالم، ولديها المهارات الفنية المتقدمة والقدرة الإنتاجية الضخمة، إضافة إلى حظوة الصين بالتطور التقني المنافس، وربما المتفوق في بعض جوانبه على التقنية الغربية في مجالات مثل الطيران والفضاء والطاقة المتجددة والاتصالات، يضاف إلى ذلك امتلاك الصين الخبرة الكافية في مجال التنمية التي بدورها ستعطي الدول العربية فرصة الاتجاه نحو نهضة سريعة وغير مكلفة، في مشاريع البنية التحتية وبناء خطوط الإنتاج وتحسين الأوضاع المعيشية لشعوبها.

وإن لم تكن كل هذه العوامل دافعة للاتجاه العربي نحو الشرق، فإن هناك ما هو أهم وأعمق، وهو التكلفة السياسية اليسيرة لتحقيق كل هذه التطلعات؛ إذ لا تشترط الصين نظاما سياسيا ما للشراكة معه، ولا تلزم أي دولة بإقرار أي قوانين كانت، ولا تحاول أيضا إثارة مسائل حقوق الإنسان، هي فقط تريد أن تعمل وتستثمر وتحقق المصلحة والمنفعة المشتركة خلال الابتعاد الفعلي عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتتكسب من ذلك دعما سياسيا قويا من الدول العربية في قضية تايوان وتمسكها الثابت بمبدأ الصين الواحدة، ودعما مماثلا في السابق كان كافيا لاستعادة مقعدها في مجلس الأمن الدولي عام 1971، وهذا الفهم الانعكاسي المتبادل حول الصين إلى أكبر شريك تجاري للدول العربية مجتمعة والمستثمر الأول فيها، حتى ارتفعت المبادلات التجارية من نحو 37 مليار دولار في 2004 إلى ما يتجاوز 330 مليار دولار في 2021.

إن اعتماد الصين على مقاربة إعلاء مكانة السيادة وعدم فرض إرادتها السياسية على الدول الشريكة، إضافة إلى نموذجها التنموي الجاذب، يؤشران إلى أن العلاقات العربية الصينية ستأخذ طريقها نحو التطور والتعاون في عدد من النواحي السياسية والأمنية، وسيحدث هذا التطور المستمر تقاربا إلى درجة دعم الطرفين لبعضهما بعضا في مسائل حقوق الإنسان وقضايا السيادة والمحافظة على وحدة الأراضي، وتوافقا عاما في قضايا العلاقات الدولية مثل قضايا التنمية والنظام الاقتصادي والقطبية الدولية، خاصة أن البيان الختامي للقمة العربية الصينية جسد وعيا للأوضاع العالمية الراهنة شديدة التعقيد، من حيث التحديات المشتركة التي تواجهها كل من الصين والدول العربية؛ لذا فإن الخيار المناسب هو مواجهتها بمبادلة التطلعات والمنفعة بين الدول العربية والصين بما يكبح جماح تلك التحديات، ويضخ عوامل الاستقرار والثقة في المنطقة والعالم.

9oba_91@