الرأي

الهدية وصلت يا «عمر»..

علي مطير
قبل أيام من رحيل أستاذي الصحفي المهم.. «عمر المضواحي»، عن الدنيا، والحبر، والتعب، والعتب، أواخر ديسمبر من العام 2015.. ضمّنا بهو فندق الهيلتون على شاطئ جدة.. كانت ليلة محبرة بالذكريات تلك التي فاض فيها صدر «المضواحي»، وهو يخرج قلمه من غمد جيبه، ثم يلوح به، متألما تارة على حال الصحافة، ومتأملا تارة أخرى بجيل صحفي يجيد تقنية الفكرة بجوار تقنية الأدوات..

مرت 7 أعوام على تلك الليلة المضواحية، منذ رحل «عمر» - رحمه الله -، ليوارى الثرى في مقبرة المعلاة، المكان الذي كتب عنه، ودفن فيه، بل ودفن بجوار محطة الكهرباء التي أشار لها ذات تقرير صحفي قبل رحيله بعام، عن مقبرة المعلاة، عنونه بـ «الموت في مكة: حياة».

رحل عمر، وظلت ذكراه حيّة تتنفس في كل قصة ومكان وزمان.. رحل الرجل الذي قال لنا في صالة التحرير وهو يودع مكتبه منتصف العام 2007: «اطلبوا الدنيا بعزة نفس فإن الأرزاق تجري بمقادير» قالها وغادر المكان بكل كبرياء، وكأنه يترك عنوانا عريضا لقصته مع الصحافة.. ثم صعد سيارته الكامري الزرقاء التي شهدت حروبه وغزواته الحبرية، لكنها أيضا ضمت عائلته الصغيرة ذلك الحين بحب كبير.

طوال حياتي المهنية لم أرَ على وجه الحبر والورق صحفيا مثل «عمر» يتحدث عن شغفه بمهنة الصحافة دون أن تبرد حواسه في صراع الحياة.. يتحدث عن الصحافة وكأنها أنثى سلبت قلبه وعقله وجوارحه.. هو ذات الشغف الذي لمسته وشاهدته أول مرة في عينيه مطلع العام 2004 وهو ذاك البريق المهني الذي كاد يضيء من حنايا صدره في ذلك المساء الجداوي الشفيف.

من يعرف «عمر» جيدا، يتذكر حين يفك أزرار ياقته.. ويشمر عن ساعديه، لتسمع صوت الكيبورد من جهازه.. لتعتقد حينها أنه يكتب لنفسه قصة صحفية خاصة به.. لكنك تفاجأ أنه أمضى وقته يعيد صياغة قصة خبرية، أو تقريرا، لزميل آخر، يريد أن يبعث فيه روح الصحافة، في مشهد متكرر من الإيثار لا يمكن رؤيته بتلك التفاصيل إلا مع «عمر».

في مكتب صحيفة الشرق الأوسط، لن أنسى ذلك المساء الذي كان يذرع فيه صالة التحرير جيئة وذهابا، وبيده رواية لـ «إبراهيم الكوني»، كان يحضّر منها بعض أسئلته، لحوار صحفي مع الروائي الليبي، الذي كان صائما عن أي حوار مع صحيفة عربية، ثم حين سألته ماذا يقلقك؟ ليأتي رده: «ليس قلقا بل أكاد أجن من روعة هذا الروائي العبقري».. قالها، وأشار لعبارة في الرواية تقول «النسيان هو البلاء الأسوأ من الموت».. كان عمر مشدوها بتلك الفلسفة التي تقف خلف العبارة لدرجة تفوق الوصف نفسه.. لقد استغرق التفكير في سؤال صحفي واحد للضيف عند «عمر»: قراءة رواية كاملة.

قبل أن يترجل عن صهوة جواد قلمه تاركا إرثا من الجمال الصحفي، والجمائل الإنسانية، كنت وإياه نحتسي آخر فنجانين بيننا من القهوة المرة، كمرارة الحياة.

ليلتها تفارقنا عند مدخل الفندق.. ليعاود الاتصال بي بعدها بدقائق ثم يسألني إن كنت ما أزال قريبا من المكان.. لكنني اعتذرت منه، ليصر أن لي هدية معه.. شكرته وأكدت أن وجوده هو الهدية الأهم ووعدته أن آخذها منه في أقرب لقاء.. ثم لم نلتقِ بعدها سوى في الحرم المكي الشريف، في المشهد الأخير.. وأرواح محبيه حوله حزنى ومدرارة بحبر من الدمع الغزير غزارة فقده، وأناملهم ترتجف أمام هيبة الوداع للرجل الذي كانت أنامله «ضوحا» في مسارب الصحافة ودياجيرها.

يا «عمر».. يا صديقي: في ذكراك السابعة.. سلامي الحار لروحك الحاضرة في كل حين.. وثق يا صاحبي بما منحتني إياه من عصارة خبرة، وتجربة، ونقد لاذع، وإيمان عميق بتلميذك.. أن الهدية يا «عمر» وصلت مع الحب والحبر..