الرأي

ثقافة إدارية.. الاستقالة

ريما رباح
من الشائع أن يكابر البعض في الاعتراف بكم التأثير الكارثي لعملهم، فيقومون بالتشبث بالمنصب والإنكار والإصرار على استمرار السير في الاتجاه الخاطئ، فهؤلاء ميالون للاستهانة بمكانة من قرر اختيارهم وبالمال العام وبثقة المجتمع حتى تصل إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، وحتى يبلغ الفشل الذريع وعدم القبول مستوى مكشوفا (كرؤية الأسماك في المياه الضحلة)، ويغيب عنهم أن هذه المكابرة ستنتقص من مكانتهم المجتمعية على المدى البعيد، هذا التقاطع يوصل إلى طريقين فإما الاستقالة الأخلاقية أو المصلحة الشخصية، فأيهما أعلى في بوصلة الضمير (وما هي الاستقالة الأخلاقية؟).

على الرغم من ندرة الاستقالات في الإدارات العليا إلا أنها شرط ضروري لصحة جسم الأجهزة والمؤسسات، فحينما تصبح الحلول مستحيلة وحيثما تراكمت التقارير وبشكل متكرر عن تردي الحال وتزامنت مع ضعف التدقيق في كفاءة استخدام المال العام - يحل توقيت الاستقالة الأخلاقية لتأسيس هيكلية جديدة أفضل أداء وإنتاجية، الأمر الذي يضمن كفاءة الأجهزة في المحاسبة وتحويل النزاهة إلى قيم حقيقية ومتحركة على أرض الواقع.

‏عند هذا المنعطف يمكننا القول إن الاستقالة هنا ليست سلوكا سلبيا ولا مجرد حركة بطولية للمسؤول قد تنهي مساره المهني إلى الأبد بوضع سمعته العملية على (منضدة التقييم).

فالاستقالة الأخلاقية سلوك إيجابي يتخذه المسؤول عند تعذر النجاح ودليل مؤكد على الاحترام الكامل للثقة الممنوحة من صانع القرار وإعلاء المصلحة العامة فوق كل اعتبار.

وبرسم المؤكد أنها المسار الأوحد لإبراز الجدية التامة لإيقاف الهدر في المال العام وإثبات النزاهة الخالصة.

(فهل هذا موجود فعلا؟).

‏نعم .. ومن الأمثلة ما شاهدناه مؤخرا في مجال الرياضة فقد تمت فورا استقالة عدد كبير من مدربي المنتخبات المشاركة للخسارة في مباريات محورية مما تسبب بالخروج من المونديال، إضافة لما رأيناه في مجال القطاع العام من استقالة رئيسة وزراء بريطانيا (ليز تراس) بعد 45 يوما فقط من فوزها بالمنصب حين أخفقت في تحقيق أهداف سياساتها الاقتصادية.

وهنا يبرز السؤال (كيف تفكر الإدارات العليا؟).

‏عندما تشارف الهياكل الإدارية على الانهيار أو تحتاج إلى التفكيك الكامل بسبب العجز والتصدع وعدم القدرة على المساندة فإن الحوكمة الرشيدة تعتمد وبشكل مفصلي على وجود السلوكيات البديهية في الإدارات العليا.. فالمجتمعات المتقدمة تراقب مستوى النزاهة المؤسسية.. وبصيغة أخرى يطرح المجتمع الواعي كثيرا من الأسئلة - على سبيل المثال - هل تذكر مجالس الإدارة نفسها (بواجباتها العليا) والحفاظ على المصلحة العامة؟ (فما أهم هذه التساؤلات.. يا ترى؟).

‏أبرز علامات الاستفهام هنا الاستعلام عما إذا ما قامت الجهات الرقابية بدورها كاملا؟، بمعنى هل تم إجراء أي تغييرات هيكلية أو تحفظ رسمي على عمل مجلس الإدارة أثناء مرحلة التصدع الواضح؟، وهل فحصت ترتيبات (الحوكمة) وأكدت مراجعتها وحددت (المخاطر) وجدول الأولويات بعناية؟ وهل فعلا ستواجه الإدارة بالرقابة المجدولة والتدقيق طويل-الأمد؟

‏وتستطرد الفحص لدور الجهات الإدارية، مثلا ما هي درجة الشفافية في اتخاذ القرارات؟، وهل تبنى بشكل منهجي على التقارير الضرورية الشاملة المعتمدة في الممارسات العالمية؟، وهل يجري التداول للآراء والمناقشات بين كامل أعضاء الفريق وشرح التحديات على المستوى الأعلى مع تدوين حيثيات الاجتماع وتسجيلها في الملف الخاص بالقرارات؟ وهل يتم نشر بيان للمجتمع عن الخطة وأهم التحديات وأسباب الإخفاقات بشكل شفاف ودوري؟ .. (فما هي الخلفية المثلى هنا؟).

‏تبوء المناصب العامة يتطلب الالتزام الكفء بعدد من المبادئ المهنية الأخلاقية، أهمها الصدق والشفافية والموضوعية والمصلحة العامة والقيادة والمساءلة، وأخيرا القدرة على الاعتراف بالقصور، فالاستقالة الأخلاقية ركن في بناء الإدارة النزيهة.

‏إذن يتعين على المسؤول في المنصب العام أن يكون صادقا أولا وثانيا وأخيرا، ويجب عليه أن يتبع منهجية منفتحة في آلية اتخاذ القرارات فليس من المقبول حجب المعلومات عن المجتمع ما لم تكن ثمة أسباب فعلية ومشروعة لذلك، كما يلزمه اتخاذ كل قرار بحيادية وعدالة واعتماد الكفاءة كمعيار أول دون تمييز أو تحيز، ومن الضروري له الابتعاد عن أي علاقة أو التزام تجاه أشخاص أو جهات تحاول التأثير عليه في قراراته بشكل أو بآخر وتهميش مصالحه الذاتية والتصرف فقط وفقا لنداء الواجب والصالح العام، ومن نافلة القول «إن المسؤول واجهة المؤسسة والمرآة العاكسة للقيم العامة وهذا يوجب تعزيزه للمبادئ ودعمها بقوة ومنع السلوك السلبي أينما حدث» ويبقى الأهم هنا تطبيق مبدأ المساءلة (فكل مَسؤول.. مُساءَل) عن قراراته وأفعاله أمام المجتمع الذي يقدم له خدماته فلا بد أن يكون رهنا للتدقيق اللازم بصفة مستمرة ..!

‏وفي الختام التأخير في الاعتراف بالإخفاق وتقديم الاستقالة الأخلاقية ذو تبعات ضخمة ومتزايدة، فالعلة لا تتوقف عند الخلل الكبير الظاهر اليوم - إنما وبمرور الزمن ستقوم بترسيخ النخر في الفكر الإداري وتعميمه على أنه الأمر السائد حتى يمتد من الأطراف إلى الجذور في ثقافة وكيان المؤسسات ككل مما يعمق منظومة الفساد ويعيق مكافحته ويزيد الأمر مشقة وتعقيدا.

‏في علم الإدارة (الحوكمة) تتطلب (الاستقالة الأخلاقية)، فتشبث المسؤول وفريقه الداعم بالمنصب والامتيازات يوقع الأجهزة التابعة في دائرة الانهيار الكامل، وعلى الضفة الأخرى يأتي المسؤول الذي يملك الشجاعة الأدبية الكافية للاعتراف بعدم النجاح في المهمة ويقرر عندئذ - تحمل مسؤوليته كاملة وترك المجال للأكفأ - فحكما هو يقدم دليلا ساطعا لا جدال فيه على تميز الإدارات العليا بالنزاهة.

‏وحرف الفصل عند التناقض الصارخ بين المستهدف والمحقق - يأتي من مدونة معايير وقواعد السلوك الأخلاقي المهني - وبكلمة واحدة هي: (استقل).. المصلحة العامة لا يمكن أن تكون (مقعدا خلفيا)..!

RimaRabah@