الرأي

العودة الحضارية للعرب وطريق الصين

صهيب الصالح
ختم ولي العهد أعمال القمة العربية الصينية للتعاون والتنمية، التي احتضنتها الرياض الأسبوع الفائت، بكلمات ثقيلة بوزنها الحضاري، حدد فيها مكونات النهضة العربية واستنهض خلالها حوافز التاريخ، وفتح طريقا تاريخيا آخر حينما أعلن الرهان على الزمن المقبل، وكان ذلك عندما قال على مسمع من الرئيس الصيني شي جينبينغ ورؤساء الوفود العربية: «نؤكد للعالم أجمع أن العرب سوف يسابقون على التقدم والنهضة مرة أخرى، وسوف نثبت ذلك كل يوم».

هذه الكلمات ترسم آفاق المرحلة المقبلة التي ترتكز على التداخل التجاري والحضاري بين العرب والصينيين؛ ليس في الحقبة التاريخية الحديثة فقط، وإنما منذ أكثر من ألفي عام، عندما أناخ تجّار العرب وبحّارتهم ركابهم في جنوب الصين، وازدهرت حينها تجارة المنسوجات والخزفيات والبخور والحرير.

وحسب الدراسات التاريخية العربية والصينية، فقد كان الشرق الأقصى والأدنى سوقا مركزيا ينتج السلع الثمينة التي كانت تعد السلع الأكثر رواجا في العالم القديم، وكان لسكان الشرق الدور الأبرز في نقل تلك السلع إلى المستهلكين في العوالم الأخرى، خلال المحور العالمي الأكثر أهمية آنذاك، وهو طريق الحرير الذي يمتد من الشرق إلى الغرب، وهذا التداخل التجاري والحضاري خلق حالة من الألفة الثقافية والاحترام المتبادل بين العرب والصينيين، بعيدا عن الازدراء الحضاري، خاصة في الجزيرة العربية بالنظر إلى مركزيتها السياسية والدينية، إضافة إلى تكوينها تكتلا اقتصاديا ضخما يربط مصر وشمال أفريقيا والشام والعراق والداخل الآسيوي بجزيرة العرب، خلال بسط نفوذها على مياه الخليج العربي والبحر الأحمر معا، وأسهم هذا التداخل في بناء التواصل التاريخي بين الحضارتين العريقتين، إضافة إلى الحضارات القديمة التي انصهرت في بوتقة الحضارة العربية، مثل الحضارات الأكادية والسومرية والبابلية والفرعونية، وهذا ما سهل امتداد الإمبراطورية العربية في القرن الثامن الميلادي لتصل إلى الحدود الصينية الغربية.

وقد ألقى التعايش التاريخي المتناغم بين هاتين الحضارتين بظلاله على الحاضر، إذ نشهد راهنا نموا فائق السرعة لعمق العلاقات الاقتصادية السعودية الصينية، فالصين تعد أهم شريك تجاري للمملكة منذ 2018، إذ بلغت التجارة بين المملكة والصين 230.3 مليار ريال، كما استحوذت المملكة على 26.3% من التجارة الخارجية للصين مع الدول العربية في 2021، وتعد المملكة أكبر مصدر للنفط إلى الصين إذ تبلغ حصة المملكة 17% من إجمالي واردات النفط الصينية، وتعكس هذه المؤشرات دوافع الإرادة السياسية للقيادتين والأهمية الجيواستراتيجية للمملكة، كونها تتمتع بموقع جغرافي يربط القارات الثلاث ومركزا للإقليم وللمنطقة العربية، مما يعني أن التعاون مع المملكة سيضفي معززات على مكانة الصين وثقلها في صراع موازين القوى الدولية، خاصة وأنها تحظى بعضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي، وتحتل المرتبة الثانية في سلم أقوى اقتصادات دول العالم.

ومن الدعائم المهمة للعالم العربي، هو ما أظهرته الصين في القمة من إرادة سياسية لتأسيس منطلقات جديدة للتعاون مع الدول العربية، إذ إن الصين تقيم علاقات شراكة استراتيجية شاملة مع 12 دولة عربية، كل دولة على حدة، ووقعت على وثائق تعاون لبناء الحزام والطريق مع 20 دولة عربية، كما انضمت 15 دولة عربية إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وتم إنشاء 17 آلية تعاون في إطار منتدى تعاون الصين العربي. الأكثر أهمية من كل هذا، هو أن الرئيس الصيني شي جينبينغ أكد في ختام أعمال القمة أنها تكللت بالنجاح التام، واعتبر أنها معلما فارقا في تاريخ العلاقات العربية الصينية التي شدد على دفع آفاقها للتعاون.

إن العودة الحضارية للعرب تستلزم الشراكات الاستراتيجية مع القوى الكبرى مثل الصين، إذ إن ما يجمع العرب مع الصين أنها دولة تبني شراكاتها على أساس التعاون والاحترام المتبادل للوصول إلى بيئة سياسية واجتماعية واقتصادية تتسم بالأمن والاستقرار، وتستهدف الوصول إلى آفاق أرحب من خلال التنمية والعيش المشترك، وتكرس قيما إنسانية مشتركة تنظر إلى الشعوب الأخرى من منظور الخصوصية الاجتماعية والسياسية والتنوع الثقافي، بعيدا عن مساعي الهيمنة الأحادية التي تزدري الحضارات والثقافات الأخرى وتنظر إليها من منظور صراعي محض، مضافا إلى كل ذلك ما يمتاز به تاريخ العلاقة بين الحضارتين العربية والصينية من تداخل تجاري أسهم إسهاما فريدا في تقدم البشرية، وكانت طريق الصين خير وسيلة لنقله.