واشنطن والرياض: علاقة تحت المجهر
الأربعاء / 23 / ربيع الأول / 1444 هـ - 23:48 - الأربعاء 19 أكتوبر 2022 23:48
يصعب وصف حالة التشنج السياسي التي أصابت الدوائر السياسية والحزبية والتشريعية في الولايات المتحدة تجاه المملكة العربية السعودية تحديدا، سوى بكونها خير تجسيد لفقدان البوصلة في السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات الأخيرة، لدرجة أن واشنطن لم تعد تميز بين درجات الطيف السياسي، ولا تفرق بين الصديق والحليف والمنافس، ولا حتى تقيم وزنا لمصالحها الاستراتيجية وتجازف بها، بسبب الإصابة بهوس روسيا والصين.
ترك الرئيس الأمريكي جو بايدن انشغالات الولايات المتحدة وملفات وقضايا السياسة الخارجية الأمريكية، التي تعاني بالفعل في إدارة ملفات كبرى مثل الأزمة الأوكرانية وتايوان وتراجع النفوذ الأمريكي، واحتمالات نشوب حرب نووية، ترك ذلك كله وتفرغ لمناكفة المملكة العربية السعودية، الحليف الاستراتيجي الوثيق لبلاده منذ عقود طويلة مضت.
صحيح أن الملفات الاستراتيجية الموضوعة على طاولة الرئيس بايدن مرتبطة ببعضها البعض، ولها تأثيرات متبادلة، ولكن تركيز الاهتمام على الرياض والحديث المتكرر عن إعادة تقييم العلاقات والتلويح بشكل معلن أو مبطن عن قطع علاقات التعاون العسكري وغير ذلك، يبدو مبالغ به ويضع الرياض في خانة تتنافر مع تاريخ وتطور مسيرة العلاقات بين البلدين، كما يعادي أسس المصالح القائمة والمحتملة بين البلدين، وكل ذلك يعني أننا أمام حالة عدم تقدير جيد للأمور، وطغيان لفكرة الاستعلاء الأمريكي في إدارة العلاقات مع الدول الأخرى حتى لو تسبب الأمر في الإضرار بمصالح واشنطن نفسها!
قد يكون الرئيس بايدن «مستاء» كما يعلن من الموقف السعودي، ومن حقه أن يعلن العمل مع الكونجرس للنظر في «شكل العلاقة التي ينبغي أن تكون مع السعودية الآن»، وهذا أمر مفهوم في إطار محاولة احتواء المواقف الداخلية المتسارعة قبيل انتخابات التجديد النصفي، وهي بالمناسبة مواقف لا علاقة قوية لها بسياسات المملكة العربية السعودية ولا حتى بقرار «أوبك +» الأخيرة، والبحث عن المصالح الاستراتيجية لبلاده بغض النظر عن حدود الصواب والخطأ في التوجه ذاته.
ولكن لا أدرى - شخصيا - لماذا يحتكر البيت الأبيض كل ذلك لنفسه ولا يرى أن الرياض أيضا وفي المقابل من حقها أن تدير علاقاتها مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول بالشكل والمستوى الذي يحقق مصالحها، ولا أدرى كذلك كيف «تعقلن» الولايات المتحدة فكرة تضحية السعودية أو أي دولة بمصالحها من أجل تلبية رغبة واشنطن أو تحقيق أهدافها بشأن النفط أو غيره؟ ولماذا لم يفكر البيت الأبيض بالطريقة ذاتها وهو يدير مفاوضاته مع إيران متجاهلا مصالح السعودية وبقية دول مجلس التعاون؟ ولماذا لم يفكر في ضم هذه الدول إلى مفاوضات فيينا أو حتى يضع مخاوفها في الاعتبار؟ ولماذا لم يفكر أيضا بالطريقة ذاتها وهو يرى التهديدات الخطيرة التي تتعرض لها المنشآت النفطية السعودية بسبب الاعتداءات الإجرامية الحوثية ولم يفكر مرة واحدة في تنفيذ الالتزامات التي يفرضها التحالف الاستراتيجي بين الرياض وواشنطن، وارتضى انتهاج سياسة غض الطرف والاكتفاء ببيانات كلامية من أجل إرضاء طهران وتفادي المجازفة بإغضابها خشية انهيار مفاوضات إحياء الاتفاق النووي؟!
منذ أشهر مضت، كنا -كمراقبين- نرصد تجاهل الولايات المتحدة لحلفائها في الشرق الأوسط، والآن نتابع كيف أن الولايات المتحدة تعود وتضع هؤلاء الحلفاء تحت المجهر، ولكن من منظور مغاير، فهي تستهدفهم ولا تبذل من الجهد ما يكفي للبحث عن جذور وأسباب ما يحدث، وتتجاهل الديناميات التي طرأت على السياسة الخارجية وآليات الحكم في هذه الدول، حيث يتصدر المشهد قيادات شابة تحمل طموحات كبرى لبلادها، وتريد أن تستفيد من مواردها في تحقيق هذه الطموحات ووضع بلادها في المكانة الاستراتيجية التي تستحق بعيدا عن إرث المعادلات التي تأسست عليها العلاقات الدولية في حقب سابقة، خصوصا أن الشريك الأمريكي لا يتذكر هذا الإرث سوى حين عند الحديث عن مصالحه.
لا أدرى كيف لم تدرك الدوائر السياسية الأمريكية التغير الذي طرأ تدريجيا على سياسات الحلفاء، والأهم من ذلك لم تحاول دراسة أسبابه ومعالجتها في ضوء المعطيات الآنية، لاسيما أن هذه الأسباب جميعها في واشنطن ودهاليزها، وليست في الرياض ولا غيرها من العواصم الشرق أوسطية، ناهيك عن أن السعودية وغيرها من الدول ذات الثقل، ترى بأعينها كيف يولد نظام عالمي جديد عقب تفشي وباء «كورونا» ثم اندلاع الحرب في أوكرانيا، ما يفرض على الجميع التصرف بدقة بالغة وإدارة العلاقات مع القوى الكبرى جميعها وفق حسابات وقرارات مدروسة تضمن مصالح هذه الدول بعيدا عن الانقياد غير المحسوب لتحالفات لم يلتزم بها الشريك الآخر نفسه.
كثيرة هي الدول التي تنتهج سياسات مماثلة لما تفعله السعودية والإمارات وبقية الدول العربية والخليجية، فهناك قوى إقليمية كبرى مثل الهند تضع نفسها قدر الإمكان في موقف الحياد في الأزمة الأوكرانية، وهناك دول أخرى تتبنى الموقف ذاته منها معظم الدول الأفريقية والآسيوية، وبعض هذه الدول يمتلك علاقات شراكة وتحالف مع الولايات المتحدة.
ما يحدث في الدوائر السياسية والتشريعية الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية هو ببساطة، تجسيد لفن خسارة الأصدقاء، والحديث عن وقف التعاون العسكري وغير ذلك هو تهديد يضر بالشركات الأمريكية نفسها قبل أن يطال المصالح السعودية، والأمر كله بحاجة إلى لجم الاندفاع الأمريكي وعقلنة السياسات واستيعاب التغير وتفهم ما وراء المواقف والسياسات السعودية بعيدا عن الخضوع لنظرية المؤامرة وغير ذلك من تفسيرات تغذي نوبة الغضب الأمريكي.
drsalemalketbi@
ترك الرئيس الأمريكي جو بايدن انشغالات الولايات المتحدة وملفات وقضايا السياسة الخارجية الأمريكية، التي تعاني بالفعل في إدارة ملفات كبرى مثل الأزمة الأوكرانية وتايوان وتراجع النفوذ الأمريكي، واحتمالات نشوب حرب نووية، ترك ذلك كله وتفرغ لمناكفة المملكة العربية السعودية، الحليف الاستراتيجي الوثيق لبلاده منذ عقود طويلة مضت.
صحيح أن الملفات الاستراتيجية الموضوعة على طاولة الرئيس بايدن مرتبطة ببعضها البعض، ولها تأثيرات متبادلة، ولكن تركيز الاهتمام على الرياض والحديث المتكرر عن إعادة تقييم العلاقات والتلويح بشكل معلن أو مبطن عن قطع علاقات التعاون العسكري وغير ذلك، يبدو مبالغ به ويضع الرياض في خانة تتنافر مع تاريخ وتطور مسيرة العلاقات بين البلدين، كما يعادي أسس المصالح القائمة والمحتملة بين البلدين، وكل ذلك يعني أننا أمام حالة عدم تقدير جيد للأمور، وطغيان لفكرة الاستعلاء الأمريكي في إدارة العلاقات مع الدول الأخرى حتى لو تسبب الأمر في الإضرار بمصالح واشنطن نفسها!
قد يكون الرئيس بايدن «مستاء» كما يعلن من الموقف السعودي، ومن حقه أن يعلن العمل مع الكونجرس للنظر في «شكل العلاقة التي ينبغي أن تكون مع السعودية الآن»، وهذا أمر مفهوم في إطار محاولة احتواء المواقف الداخلية المتسارعة قبيل انتخابات التجديد النصفي، وهي بالمناسبة مواقف لا علاقة قوية لها بسياسات المملكة العربية السعودية ولا حتى بقرار «أوبك +» الأخيرة، والبحث عن المصالح الاستراتيجية لبلاده بغض النظر عن حدود الصواب والخطأ في التوجه ذاته.
ولكن لا أدرى - شخصيا - لماذا يحتكر البيت الأبيض كل ذلك لنفسه ولا يرى أن الرياض أيضا وفي المقابل من حقها أن تدير علاقاتها مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول بالشكل والمستوى الذي يحقق مصالحها، ولا أدرى كذلك كيف «تعقلن» الولايات المتحدة فكرة تضحية السعودية أو أي دولة بمصالحها من أجل تلبية رغبة واشنطن أو تحقيق أهدافها بشأن النفط أو غيره؟ ولماذا لم يفكر البيت الأبيض بالطريقة ذاتها وهو يدير مفاوضاته مع إيران متجاهلا مصالح السعودية وبقية دول مجلس التعاون؟ ولماذا لم يفكر في ضم هذه الدول إلى مفاوضات فيينا أو حتى يضع مخاوفها في الاعتبار؟ ولماذا لم يفكر أيضا بالطريقة ذاتها وهو يرى التهديدات الخطيرة التي تتعرض لها المنشآت النفطية السعودية بسبب الاعتداءات الإجرامية الحوثية ولم يفكر مرة واحدة في تنفيذ الالتزامات التي يفرضها التحالف الاستراتيجي بين الرياض وواشنطن، وارتضى انتهاج سياسة غض الطرف والاكتفاء ببيانات كلامية من أجل إرضاء طهران وتفادي المجازفة بإغضابها خشية انهيار مفاوضات إحياء الاتفاق النووي؟!
منذ أشهر مضت، كنا -كمراقبين- نرصد تجاهل الولايات المتحدة لحلفائها في الشرق الأوسط، والآن نتابع كيف أن الولايات المتحدة تعود وتضع هؤلاء الحلفاء تحت المجهر، ولكن من منظور مغاير، فهي تستهدفهم ولا تبذل من الجهد ما يكفي للبحث عن جذور وأسباب ما يحدث، وتتجاهل الديناميات التي طرأت على السياسة الخارجية وآليات الحكم في هذه الدول، حيث يتصدر المشهد قيادات شابة تحمل طموحات كبرى لبلادها، وتريد أن تستفيد من مواردها في تحقيق هذه الطموحات ووضع بلادها في المكانة الاستراتيجية التي تستحق بعيدا عن إرث المعادلات التي تأسست عليها العلاقات الدولية في حقب سابقة، خصوصا أن الشريك الأمريكي لا يتذكر هذا الإرث سوى حين عند الحديث عن مصالحه.
لا أدرى كيف لم تدرك الدوائر السياسية الأمريكية التغير الذي طرأ تدريجيا على سياسات الحلفاء، والأهم من ذلك لم تحاول دراسة أسبابه ومعالجتها في ضوء المعطيات الآنية، لاسيما أن هذه الأسباب جميعها في واشنطن ودهاليزها، وليست في الرياض ولا غيرها من العواصم الشرق أوسطية، ناهيك عن أن السعودية وغيرها من الدول ذات الثقل، ترى بأعينها كيف يولد نظام عالمي جديد عقب تفشي وباء «كورونا» ثم اندلاع الحرب في أوكرانيا، ما يفرض على الجميع التصرف بدقة بالغة وإدارة العلاقات مع القوى الكبرى جميعها وفق حسابات وقرارات مدروسة تضمن مصالح هذه الدول بعيدا عن الانقياد غير المحسوب لتحالفات لم يلتزم بها الشريك الآخر نفسه.
كثيرة هي الدول التي تنتهج سياسات مماثلة لما تفعله السعودية والإمارات وبقية الدول العربية والخليجية، فهناك قوى إقليمية كبرى مثل الهند تضع نفسها قدر الإمكان في موقف الحياد في الأزمة الأوكرانية، وهناك دول أخرى تتبنى الموقف ذاته منها معظم الدول الأفريقية والآسيوية، وبعض هذه الدول يمتلك علاقات شراكة وتحالف مع الولايات المتحدة.
ما يحدث في الدوائر السياسية والتشريعية الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية هو ببساطة، تجسيد لفن خسارة الأصدقاء، والحديث عن وقف التعاون العسكري وغير ذلك هو تهديد يضر بالشركات الأمريكية نفسها قبل أن يطال المصالح السعودية، والأمر كله بحاجة إلى لجم الاندفاع الأمريكي وعقلنة السياسات واستيعاب التغير وتفهم ما وراء المواقف والسياسات السعودية بعيدا عن الخضوع لنظرية المؤامرة وغير ذلك من تفسيرات تغذي نوبة الغضب الأمريكي.
drsalemalketbi@