الرأي

بين القصيدة والغناء

طامي الشمراني
لعل السمة الغنائية هي السمة الأبرز التي ميزت القصيدة عبر رحلتها الطويلة منذ العصر الجاهلي وحتى اللحظة الراهنة، وهي سمة نابعة من بنية القصيدة الإيقاعية وطبيعة تشكيل القصيدة، وربما هذا من العناصر المهمة التي سهلت حفظها ونقلها من خلال الرواة أو المتلقين من جيل إلى آخر ومن عصر إلى عصر، لا سيما في المرحلة الشفوية التي سبقت التدوين، وربما أسهمت هذه الصفة تحديدا في الحفاظ على كثير من الشعر العربي، وإذا انتقلنا إلى عصرنا الراهن سنلحظ أن كثيرا من الدعوات التي دعت إلى تجريد هذا الشعر من مرتكز من مرتكزات بقائه وديمومته وهي السمة الغنائية من خلال التخلي عن عنصر مهم من عناصر القصيدة المتمثل في الوزن وصولا إلى ما عرف بقصيدة النثر وإن كانت هذه القصيدة قد تخلت عن عنصر الوزن فإنها قد تخلت عن عنصر شفاهي مهم يفقدها قدرتها التواصلية مع المتلقي.

ولعل من الظواهر التي يمكن أن تكون عاملا مهما في استرداد الشعر العربي لقوة حضوره في عالم بدأ يتحول إلى قرية صغيرة بفعل التطور الهائل في وسائل الاتصال والإنترنت هو ميل كثر من الفنانين إلى غناء القصائد الفصيحة، ولا شك أن لهذا النمط من الفن أثر مهم وإيجابي في إعادة تموقع القصيدة في المكان الذي تستحق، فلا شك أن ذلك يعيد إلى أذن المتلقي وروحه وقلبه لحظة تواصل حاسمة ومهمة لرفع الحيف عن القصيدة، وفي مدى أبعد رفع الحيف عن جماليات اللغة العربية التي بات أبناؤها من أشد المناوئين لها بقصد ومن غير قصد عندما يهملون جانبا مهما من جوانب الجمال الفني المتمثل في البحث عن كثير من كنوز التراث لإعادة صياغته بأسلوب فني جديد وتقديمه من خلال الغناء إلى المتلقين، وهنا لا شك أن تواشج اللحن الجيد مع الصوت الجميل سيظهر نصاعة اللغة العربية، من دون إغفال التجارب الشعرية المعاصرة والاستفادة من قصائدها لتقديمها للجمهور الذي ما زلت أراهن على أن حاجته للجمال ما زالت حية وتستجيب لهذا النمط من الفن الراقي.

وهنا تحضرنا رائعة فيروز (غنيت مكة أهلها الصيد) لسعيد عقل ورائعة نزار قباني التي صدح بها محمد عبده (أحلى خبر)، كما لا تغيب قصائد التراث التي حضرت عند جيل من الفنانين في مراحل زمنية سابقة ما زالت الأذن تستمتع بسماعها كتلك التي غناها محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش، وغيرهم التي تواشج فيها اللحن مع الكلمة والتي تسهم في إظهار جماليات العربية، لا شك أن مثل هذا الفن بات من الضرورات الملحة في عصر بات فيه التلوث السمعي كالسيل الجارف، فهل من آذان مصغية؟