الرأي

الحاجة للميتافيزيقا

عبدالحليم البراك
كمقدمة عتيقة، لو سألت أي طبيب، هل يمكن أن يعيش الإنسان بالفيتامينات؟.. فالإجابة قطعا لا، برغم أهمية الفيتامينات للإنسان، ولا يمكن أن يعيش -أيضا- بالبروتين وحده، وكذلك الدهون وغيرها كما أنه بحاجة للماء أيضا، ثم تكتشف أنه ليس هناك شيء رئيس يعيش عليه الإنسان، بل عدة أشياء يحتاجها الإنسان، لكن لدى الإنسان هوس بالسؤال المختصر وهو البحث عن شيء واحد يحل محل كل الأشياء، أو يسيطر على كل الأشياء، أو يستغنى به عن الأشياء كلها. وهي نتيجة طبيعية إما لكسل الإنسان، أو رغبته في تجميع الأشياء كنوع من التفكير المنطقي الذي يتميز به عن غيره.

وهكذا الإنسان يتكون من أشياء كثيرة، هذه الأشياء المادية التي يراها لا يستطيع أن ينكرها، فيتعرف أنه بحاجة للمادة كقوام بقائه، وبحاجة للتفكير كقوام نجاته، لكنه ينكر حاجته –أحيانا– للميتافيزيقا؛ لأنه يعتقد أنه يقوم وحده وبدونها، لسبب بسيط هو أنها ليست مادة فيسهل إنكارها، لكنه لا ينكر المادة، لأن وجود المادة يهزم الإنسان، مهما يكن من أمر، وبقدرة قادر يتحول إنكاره للميتافيزيقا إلى ميتافيزيقا في داخله وكما ينسب للفيلسوف الفرنسي أوجست كانت قوله «إن الملحد أكثر ميتافيزيقية من أي مؤمن آخر!» حتى الشيوعية التي قالت عن الدين «إنه أفيون الشعوب» صارت توصم بأنها أيديولوجيا هي الأخرى، والإيديولوجيا شكل ميتافيزيقي للنظر للأشياء.

فالميتافيزيقا هي ثلاثة أشياء محصورة منذ ألفي عام وحتى الآن، وهي النظر للكون والوجود، والإلهيات والعلم الكلي كالقوانين العقلية، فيتجاهل الإنسان التفكير في الكون باعتباره لا يمكن ترجيح نظره عنه لصعوبة تحويله للقوانين الطبيعية والتجريبية، برغم أنه في داخله يجد تفسيرا له خاصا به، يختلف عن أي شخص آخر ما لم يتبنى منهجا دينيا لتفسير الكون، وينظر للإلهيات هي الأخرى بنفس النظرة تقريبا فيتبنى الإنسان منهجا دينيا أو أسطوريا يفسر لها الأسئلة اللاهوتية التي ترد ذهنه، بما في ذلك الأساطير والميثولوجيا التي تبنتها بعض الحضارات ليست سوى بديل للتفكير اللاهوتي، ويؤمن الإنسان الملحد بنفسه كحالة متفردة لإنكاره للإلهيات التي يتبناها الآخر فيصبح هو الآخر إيديولوجيا بطريقة أخرى وعلى طريقة أوجست كانت!

لذلك يأتي الإيمان بالميتافيزيقا كمكون إنساني بداية للتعايش معه بطريقة مختلفة من شخص لآخر، ومن مجتمع لآخر، ومن عصر لآخر، وتعتبر الشعوب الإثنية هي الشعوب الأكثر تفهما –بطريقة أو بأخرى– لمفهوم الحاجة للميتافيزيقا أو تفهمها على أقل تقدير، فتتبنى منهجا ورؤية ميتافيزيقية وإلاهيات وتتعايش ظاهريا مع المناهج الأخرى، مالم يؤجج هذا التعايش روحا متطرفة تبعث الفرقة وتنقض التفاهم مرة أخرى.

كل هذا يأتي لتفسير الميتافيزيقا ويقدم صورة حية للفشل الإنساني المتواصل للإجهاز عليها، باعتبارها خارج مكون الإنسان، وإذا ما اعترف الإنسان بأن مكونه الروحي والذي تعتبر الميتافيزيقا جزءا منه، ومنه أيضا الحب والخوف والرغبة والشهوة فإنه سيتعايش معها باعتبارها احتياج متعدد يختلف ويحتاجه كل شخص وبدلا من محاربته يتم تهذيبه وتقعيده إنسانيا، فيقوم القانون بدوره في تهذيب التعامل معها، وكذلك الأخلاق والروح الإنسانية التي تقدم الإنسان أولا، وبهذه تنتصر عودة الميتافيزيقا للحياة ضد أولئك المغرورين الذين يعتقدون بأنه بالمايكرو والماكرو، بالتقنية والعلم والماديات أنهم ينتصرون، ولا أدل من فشلهم كيف يمكن لعالم فيزياء عظيم في أقاصي الهند أن يخرج من معمله معه انتصاراته العالمية ليعود إلى ميتافيزيقياه القديمة يستند إليها ويسكن إليها ويؤمن بها وترتاح لها نفسه في تفسير العالم والكون والحياة!

Halemalbaarrak@