الرأي

شتاء أوروبا القادم

علي المطوع
مرة ثانية يعيد بوتين العالم إلى حافة الهاوية بعد إعلانه التعبئة الجزئية لحربه في أوكرانيا، وذلك على خلفية انسحاب قواته من بعض المواقع التي كانت تسيطر عليها في ذلك البلد.

هذا الانسحاب كانت ردة الفعل المثلى للغربيين بعد الهجوم الأوكراني الذي شن الأسبوع الماضي والذي جعل بوتين يعيد حساباته في هذه الحرب والتي يبدو أنها كانت مبنية على توقعات أكيدة، بأن تكون مجرد نزهة للقوات الروسية، يتبعها استجابة غربية لمطالب تراها روسيا مشروعة وبسيطة ويمكن تحقيقها!

مسار الحرب ومآلها الأخير يثبت أن روسيا لم يكن في حسبانها أن تتوحش الدول الغربية في ردة فعلها تجاه توغلها الأخير في الأراضي الأوكرانية، والذي كانت نتيجته الأخيرة انكسارا ظاهريا وإن كانت بعض المؤشرات تقول إنه الهدوء الذي سيسبق العاصفة وربما يصل ألمه وتأثيره إلى العاصمة كييف.

دعونا نتفق أن الحرب ما هي إلا الوسيلة الأخيرة التي ينحو إليها السياسي لتحقيق غاياته، والروس كانوا وما زالوا يرون في هذه الحرب وسيلة مثلى لإعادة روسيا العظمى لتتبوأ مكانتها المثلى في هذا العالم الجديد.

في عام 2014 غامر بوتين واحتل شبه جزيرة القرم، وكانت ردة الفعل الغربية مثالية له ولروسيا، فلم تتعد تلك الردود الاستنكار والشجب المعلن وشيء من العقوبات، ربما تكون ردود الفعل تلك جزءا من المؤشرات التي بنى عليها بوتين قراره الأخير باجتياح أوكرانيا، ولكن الأوكرانيين أنفسهم صمدوا في هذا الاجتياح، صحيح أنه كان بدعم غربي منقطع النظير، إلا أنه صمود فاجأ الأوكرانيين أنفسهم، قبل أن يفاجئ بوتين وآلته العسكرية التي يبدو أنها قد عجزت عن التعامل مع التقنية الغربية التي كانت وما زالت تؤكد أنها الأفضل والأبسط والأكثر كفاءة في التعامل مع معطيات الحروب ومتغيراتها، ولعل أبسطها صواريخ ستنجر المحمولة على الكتف، وما فعلته بالأمس في أفغانستان، وما تفعله اليوم همسا قاتلا في أوكرانيا خير دليل على هذا التفوق الأخير.

إن هذا الانسحاب التكتيكي الخطير الذي اتخذته القيادة الروسية صاحبه حركة سياسية لا تقل خطورة وإثارة، تلك هي حركة الاستفتاءات التي تجري اليوم في بعض المناطق الشرقية لأوكرانيا وخاصة في دونباس ومنطقتيه الاستراتيجيتين لوهانسك ودونيتسك، هذا الإقليم يعد من أكثر الأقاليم غنى بمصادر الطاقة، وخاصة الفحم والذي يعد جائزة مثلى لروسيا تعوضها شيئا من خسائرها السياسية والاقتصادية الأخيرة جراء مغامرتها العسكرية الأخيرة، إضافة إلى استفتاءات مشابهة تجرى في مقاطعات قريبة لهذا الإقليم مثل زابوروجيه وخيرسون، كل ذلك يؤكد أن روسيا تريد أن تمنح هذه الأماكن صفة شرعية أمام العالم كبلدان وأقاليم اختارت شعوبها طوعا الانضمام والانضواء تحت جناح الإمبراطورية الروسية بنسختها البوتينية الحديثة والعنيفة!

كل ما جرى ويجري يؤكد أن المارد الروسي قد قرأ المشهد الأوكراني من جميع جوانبه وهو بهذه الخطوة -الاستفتاء- يضع العالم الغربي أمام مبادئه الأممية الأصلية والأصيلة؛ المتمثلة في مبادئ الأمم المتحدة ومنها حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وهذا شيء يؤكد أن روسيا قادرة على فرض وجهة نظرها مستخدمة الواقع الجغرافي الجديد الذي بات يؤكد علو كعبها في هذه المنطقة، إضافة إلى تلك الاستفتاءات التي ستجعل العالم أسيرا لواقع سياسي جديد فرضه بوتين وآلته العسكرية، وخطواته التشريعية الأخيرة المتناغمة والمنسجمة مع مبادئ الأمم المتحدة!

الشتاء القادم وتقلص مصادر الطاقة الذي باتت بوادره تظهر في أوروبا اليوم قد تعجل بحصول اتفاق جديد تحت ضغط نقص موارد الغاز الروسي، الذي ستكون له كلمته في شتاء أوربا القادم، والذي يبدو أنه صقيع قارس لن تحتمله أوروبا وسيكون هذا الشتاء هو فرس الرهان الروسي الأخير الذي سيسقط كبرياء الغرب، ويعيدهم إلى وضع تفاوضي جديد، كما أسقط من قبل كبرياء نابليون والنازيين عندما انكسروا أكثر من مرة على أبواب موسكو وستالينغراد، على وقع نيران ذلك الصقيع، الفرق اليوم أن هذا الصقيع الروسي الجديد بات اليوم هو من يطرق أبواب القارة العجوز مما سيجعلها تعيش بياتا حياتيا طويل الأمد باتت معالمه تلوح في الأفق.

alaseery2@