الرأي

الحج عبادة وسلوك حضاري

السوق

صالح عبدالله كامل
(إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) آل عمران، الآية 96، قرأت في كتاب «آيات المسجد الحرام» والذي أهدانيه مؤلفه السيد: ضياء بن محمد بن مقبول عطار في 22 رجب 1430هـ، حول معنى هذه الآية المباركة: «فإذا قلنا بأن أوليته بدأت ببناء سيدنا إبراهيم له، ونفينا أن يكون البيت بني قبله، فمعناه أننا أخرنا مساجد الأنبياء والمرسلين الذين سبقوا عهد خليل الرحمن عليه السلام من عهد أبينا آدم صفي الله عليه السلام، وهذا كلام فيه نظر. وقد ورد أن الأنبياء عليهم السلام حجوا لهذا البيت، ورواية الإمام أحمد عن حج سيدنا هود وسيدنا صالح عليهما السلام للبيت الحرام حديث حسن يحتج به ورواه الحافظ بن كثير في تاريخه مع ما عرف عنه من تشدد في هذه الأمور. وإذا قبلنا صحة النقاش والحجة التي وردت فيه من حيث المسلمات فلا بد لنا أن نسلم أن البيت الحرام بني قبل سيدنا إبراهيم عليه السلام. وأول من عبد الله فيه هو صفي الله آدم عليه السلام، والحديث الذي روي في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض، فقال: المسجد الحرام، قلت ثم أي؟ قال المسجد الأقصى، قلت كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم الأرض لك مسجدا فحيثما أدركت الصلاة فصل). ومع هذا فهناك كما قرأت من اختلف من أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: إن أول بيت وضع للناس مباركا وهدى للعالمين، الذي ببكة، قالوا وليس هو أول بيت وضع في الأرض، وتساءلوا: أين كان قوم نوح وأين كان قوم هود؟ تماما كما اختلفوا في معنى «بكة»، فمنهم من قال: وأما قوله: (للذي ببكة مباركا) فإنه يعني: للبيت الذي يزدحم الناس لطوافهم في حجهم وعمرهم. وأصل البك الزحم، يقال بك فلان فلانا، إذا زحمه وصدمه. وقال البعض في تأويل «بكة»: لأن الناس يتباكون فيها. ومن هنا جاء تفريق البعض في المعنى بين لفظي: مكة، بكة. فقالوا بكة هي البيت والمسجد، ومكة هدى الحرم كله، يعني البيوت والمدينة بأسرها. ولقد عدد الكاتب في كتاب «آيات المسجد الحرام» الآيات في المسجد الحرام بنحو عشر آيات بدأها بالكعبة المشرفة ذاتها، ثم مقام إبراهيم عليه السلام، ثم الحجر الأسود المبارك، ثم الملتزم (عند باب الكعبة)، ثم الركن اليماني، ثم حجر إسماعيل عليه السلام، ثم ماء زمزم، ثم الميزاب (مرزاب الكعبة)، ثم الحطيم، والعاشرة هي الصفا والمروة، وهما من شعائر الله تعالى. ولقد وجدت ما ذكرته في مقدمة هذا المقال مناسبة لإشعار المسلمين هنا في بلادنا أن هناك من الذين يأتون على كل ضامر يأتين من كل فج عميق، بعظمة هذا البيت، فالحج وقد بدأ موسمه بفضل الله هذا العام، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: في سورة البقرة الآية 197 (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب)، وقوله «فلا رفث «كما نعلم هو الجماع مع أهله، أو حتى الحديث حوله تجنبا للفاحش من القول، ولا فسوق: الفسوق إتيان المعاصي في الحرم من صيد أو سباب، وكما ثبت في الصحيح: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر. أما قوله: «ولا جدال في الحج» فقد كان العرب يقفون مواقف مختلفة يتجادلون، كلهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم. وقطع الله ذلك حين أعلم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بالمناسك. ويقال إن المراد بالجدال هو المخاصمة وأن تماري صاحبك حتى تغضبه. ولشديد الأسف فإن البعض من المسلمين لا يجدون زمنا أصلح للجدال من الحج، وهو الركن الذي أتم الله به نعمته وأكمل به دينه. ولكن أخذ البعض في هذه السنين التي تشهد اختلافات كثيرة بين المسلمين بسبب المذاهب والأهواء وسياسات التناحر والتفاخر، أخذوا ينتظرون هذه المناسبة الدينية العظيمة ليوسعوا من فجوة الفرقة وليعمقوا من مفاهيم الاختلاف لأسباب لا تمت إلى الدين بصلة، وكل غرضها تعكير أجواء المؤتمر الإسلامي الأكبر الذي تتشرف حكومة المملكة العربية السعودية، بقيادة خادم الحرمين الشريفين باستضافته بتوفيق من الله في كل عام. باذلة أقصى ما يمكن لحكومة أن تبذله من جهد لرعاية ضيوف الرحمن على هذه الأرض المباركة.. وفي كل عام تنطلق شعارات جديدة ومبادرات مفيدة للعمل على تسهيل أداء المناسك والتيسير على حجاج بيت الله الحرام. وبالأمس أطلق صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز، مستشار خادم الحرمين الشريفين، أمير مكة المكرمة، رئيس لجنة الحج المركزية.. شعار: الحج عبادة وسلوك حضاري، من أجل تأكيد أن الحج رسالة سلام، لجعل استقبال جميع حجاج بيت الله الحرام يحظون بمعاملة متساوية، بالرغم من تنوعهم الثقافي والعرقي، دون تفريق ودون تمييز، عبر جو روحاني، ترفرف عليهم جميعا روح الإسلام التي تجعل الجميع متساوين كأسنان المشط. مع التأكيد على أهمية احترام النظام والذي هو أهم ركائز الدين. وكما قلت يوما فإن الدين هي كلمة مرادفة للنظام. وكما ورد في سورة يوسف: (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله)، وفي دين الملك هنا تأويلها: في حكم الملك أو نظام الملك.. والمقصود في نظام الدولة بشكل عام.. واحترام النظام بين المسلمين سلام ينشرونه إلى العالم كله، وكذلك فيما بينهم. ولا بد للقادمين من حجاج بيت الله الحرام أن يعلموا جيدا أن الحج ليس رحلة للترفيه على ما فيه من منافع.. ولكنه رحلة العمر التي يجب أن تتم على أكمل وجه، وعليهم أن يعرفوا مقدار حرمة هذا البلد، ليقدسوا شعائرهم وليكملوها في جو من الخشوع والخوف من الله والرهبة، حتى لا يتجاوزوا أو يتساهلوا، أو يضللوا.. ومن هنا، وكما قال أمير مكة يجيئ التنسيق بين جهات الحج في المملكة وبين السفارات السعودية في الخارج للتعريف الصحيح بمفهوم الحج الصحيح. وإذا ما أدركوا كم في بيت الله من آيات وأعطوا كل آية منها حقها من التقدير والتبجيل، فلا شك أنهم سيؤدون شعائرهم كما أمروا في سكينة ووقار.. ولو أدرك المواطن هنا في الحرم ما عليه من واجبات وما للقادمين من حقوق فرعاها وأداها، لأسهمنا جميعا في مساعدة الدولة لتقديم أرقى الخدمات لضيوف الرحمن. وكما قال مستشار خادم الحرمين الشريفين الأمير خالد الفيصل: يجب علينا التحلي بالسلوكيات، وأن نستقبل ضيوف الرحمن بالابتسامة التي تشعرهم أننا جميعا في خدمتهم، نعم فالابتسامة لغة يفهمها كل البشر. وقد تصنع هذه الابتسامة ما عجزت عن صنعه هيئة أو وزارة، علاوة على أن تبسمك في وجه أخيك صدقة.. فعلا إنه دين السلوكيات وليس الشعارات، إنه دين المعاملة وليس المغالاة.. وقد يحدث كثيرا أن يسألك أحد حجاج بيت الله الحرام سؤالا عن وجهة يريدها أو معلومة يرغب في معرفتها، ويصدف أنه يتحدث إليك بلغة غير لغتك، وأنت لا تفهمها.. ولكنه سينصرف سعيدا إذا رآك مبتسما، فليس عيبا أن لا تعرف لغته، ولكن بإمكانك أن تجعله يدرك بأنك سعيد بلقائه دون أن تسدي له حتى خدمة. حضرت كثيرا من المؤتمرات والتجمعات في مشارق الأرض ومغاربها، وحضرت لأماكن انعقادها دون مؤتمرات.. فوجدت الناس يبالغون في إكرام وفودهم في أيام المؤتمرات أكثر من الاهتمام بهم في الأيام العادية.. فلنكرم جميعا وفود الرحمن.. ولنكن لديننا وبلادنا أجمل عنوان.